هل نجحت اسرائيل في إستعادة قوة الردع؟

الصورة: 123RF

هل نجحت اسرائيل في إستعادة قوة الردع؟

لماذا أطلقت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تحذيراً علنياً بأن «صورة الردع الاسرائيلية تتهشم؟»..

 

*عصمت منصور

ليلة التاسع من مايو/ آيار الماضي، نفذ سلاح الجو الاسرائيلي عملية اغتيال ضد ثلاثة من قادة حركة الجهاد الاسلامي من الجناحين العسكري والسياسي، في عملية متزامنة، أعتبرت رداً على القصف الذي نفذته الحركة ضد مستوطنات غلاف غزة قبل ايام من الاغتيال، ومحاولة لترميم صورة الردع الاسرائيلية، وفق ما صرح به وزير امن الاحتلال يؤاف جالنت[1] بعد عملية الاغتيال مباشرة.
العملية التي وصفت بالناجحة استخباراتياً وامنياً حققت لاسرائيل اهدافها كاملة منذ اللحظة الاولى لتنفيذها، او بمجرد الاقدام عليها، اذ انها كسرت الشعور السائد لدى شركاء بنيامين نتنياهو في الائتلاف وقطاعات واسعة من اليمين وسكان مستوطنات الغلاف المحيط بقطاع غزة، بان الحكومة تتهيب فتح مواجهة مع فصائل المقاومة، اوالعودة الى سياسة الاغتيالات، خشية فتح جبهة قتال جديدة قد تمتد لتطال ساحات مواجهة اخرى، كما حدث عند اطلاق 34 صاروخاً من الاراضي البنانية ضد مستوطنات الشمال في السادس من ابريل/نيسان من العام الحالي.
تكرارعمليات اطلاق الصواريخ من قطاع غزة وجنوب لبنان، وعدم الاقدام على عملية رد (رادعة) ضد فصائل المقاومة وقادتها في غزة، كما طالب وزير الامن الوطني الاسرائيلي المتشدد ايتمار بن غفير، الذي علق مشاركته هو واعضاء كتلته في الكنيست، في التصويت الى جانب الحكومة ومقاطعة جلساتها، مع تهديده بالخروج من الائتلاف، على هذه الخلفية، زادت من الشعور بتآكل قوة الردع الاسرائيلية، خاصة مع تنامي خطاب هجومي مليء بالتحدي، اخذ في التزايد من قبل فصائل المقاومة ومحورها المتحالف مع ايران، والذي يتوعد بفتح جبهة متعددة الساحات في مواجهة اسرائيل وسياساتها العدوانية ضد الأقصى او اذا ما استهدفت قادة المقاوة وهو ما بات يعرف بـ (وحدة الساحات).
الازمة الاسرائيلية الداخلية المتفاقمة، التي قادت الى اندلاع مظاهرات شارك فيها مئات الالاف من الاسرائيليين، في اضخم واوسع حملة احتجاج ورفض ضد برنامج الحكومة اليمينية المحافظة التي شكلها تنتنياهو مع احزاب يمينية دينية وقومية متطرفة، والتي اثارتها سلسلة الاصلاحات القضائية التي هددت باضعاف منظومة القضاء (او الانقلاب القضائي) كما يصفها معارضوها، طالت هي الاخرى اذرع الامن وخاصة جيش الاحتياط في وحدات قتالية وسلاح الطيران وقطاع السايبر. بالاضافة الى اثرها على الاقتصاد، ووحدة الجبهة الداخلية الاسرائيلية ومناعتها وثقتها بالمستوى السياسي، شكلت واحدة من العوامل التي اوحت لمحور المقاومة بأن الفرصة مؤاتية لتعديل ميزان الردع، واستغلال الحالة التي تمر بها اسرائيل داخليا، وتردي علاقة حكومتها مع اهم حلفائها (الولايات المتحدة) التي لم تدع (حتى اللحظة) رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو للقاء مع الرئيس الأمريكي جون بايدن في البيت الأبيض، ناهيك عن اصطفافها بشكل علني مع المتظاهرين ومطالبهم، وتحذيراتها العلنية من تداعيات الاصلاحات القضائية على العلاقة مع الولايات المتحدة ويهود العالم، كما انتقادها الصريح لتركيبة الحكومة اليمينية ووجود بعض الوزراء المتطرفين في مواقع حساسة بها، كلها عوامل ادت تنامي الشعور بتراجع استراتيجي في مكانة اسرائيل وقدرتها على المواجهة.

الهجوم على الجهاد الاسلامي لترميم الردع واستعادة تماسك الائتلاف

ان اقدام اسرائيل على عملية الاغتيال ضد قادة الجهاد الاسلامي انما هدفت الى استعادة صورة الردع [2] وفق ما نشره موقع اكتواليا، كما ان اختيار المنظومة الأمنية لحركة الجهاد الاسلامي وان تكون هي المستهدفة في عملية الاغتيال المباغتة، ضمن لها عدة مكاسب حققتها بشكل فوري اهمها:
(الأول): تقديرها المسبق، ان هذا لن يعطي حركة حماس المسوغ الكافي للانضمام الى القتال، وبالتالي هذا سيمكنها من الاستفراد بحركة صغيرة وامكانياتها اقل بكثير من حركة حماس، وهو ما سيعني بالضرورة ان الجولة سيكون مداها الزمني قصير، ومدى الصواريخ فيها محدود، دون ان تمس العمق الاسرائيلي في وسط البلاد ومدن المركز.
(الثاني): انطلقت المنظومة الأمنية والسياسية الاسرائيلية من افتراض ، مفاده ان دخول حركة الجهاد الاسلامي المعركة وحيدة، سيتكفل بأن يقلل من احتمال فتح جبهات اخرى، خاصة على الحدود الشمالية وفي الضفة الغربية، بسبب المعلومات التي لديها بان الصواريخ التي انطلقت من جنوب لبنان اطلقتها جهات تتبع لحركة حماس.
هذه العوامل، جرى تلخيصها واستشفافها من قرار نتنياهو عدم عقد جلسة خاصة للكابينيت الأمني والسياسي المصغر واخذ مصادقته على عملية الاغتيال، وهو ما بررته المستشارة القانونية [3] للحكومة بانه جاء بناء على تقديرات استخباراتية تفيد بان “الخطوة لن تقود الى حرب شاملة او عملية عسكرية طويلة الأمد” وفق موقع “واللا” الاسرائيلي.

المكاسب الاسرائيلية وميزان الردع

اولى المكاسب التي حققها نتنياهو من وراء عملية الاغتيال المباغتة، هي ترميم ائتلافه الحكومي واستعادة كتلة ايتمار بن غفير الذي اعلن انه انهى مقاطعته للتصويت مع الائتلاف وانه سيعود للجلوس مجددا على طاولة الحكومة.
هذا المكسب اعاد لنتنياهو صورته القيادية وسيطرته على الائتلاف الذي بدأ يتداعى من الداخل، دون الاعتقاد انه كان عرضة للانهيار.
لقد دأب وزير الأمن الوطني ايتمار بن غفير على ممارسة سياستة التي يقوم من خلالها بانتقاد الحكومة من الداخل، وشدها أكثر واكثر نحو اليمين ومقاطعتها جلساتها او التصويت معها، وهي ممارسات بهتت صورة نتنياهو امام جمهور المتشددين واظهرته بمظهر الضعيف الذي يتهرب من المواجهة ويخضع باستمرار للابتزاز. لقد انقلبت هذه الصورة رأساً على عقب بعد العملية، اذا ظهر بن غفير بمظهر السياسي المراهق عديم التجربة والعجول الذي يتصرف بصبيانية ولا يثق بالمنظومة الأمنية، بينما ظهر نتنياهو بمظهر القيادي المحنك والصبور الذي يعد للعمليات بصمت ودون ضجيج ويقف خلف المنظومة الأمنية ويمنحها ثقته ولا يكبلها بل يطلق يدها بجرأة عندما تتطلب المصلحة العامة ذلك وعندما تنضج الظروف العملياتية والاستخباراتية والأمنية لذلك.
كما نجح نتنياهو في حرف الانظار عن أزمة حكومته مع المعارضة التي جندت مئات الآلاف في الشوارع ضده وضد اصلاحاته القضائية، حيث خطفت العملية الاضواء عن موجة الاحتجاجات، واعادت التذكير بالمخاطر التي تحدق باسرائيل، وهو ما ادى الى استبدل جدول الاعمال الاعلامي والسياسي من التركيز على الداخل بجدول اعمال يكون الأمن والتهديدات الخارجية في مركزه.
الجانب الاستعراضي في عملية الاغتيال، والمهارة في القدرة على تنفيذها بشكل متزامن بما يتطلبه ذلك من اشهر من الاعداد وامتلاك منظومات تكنولوجية واستخباراتية وعملياتية متقدمة، وجهوزية عملياتية وقدرة على العمل المشترك بين كافة الوحدات، اعاد للجيش ومنظومة الأمن هيبتها، خاصة ان سلاح الطيران (شاركت 40 طائرة مقاتلة في تنفيذ الاغتيال) هو الذي نفذها وهو اكثر سلاح من اسلحة الجيش تأثر في موجة الاحتجاجات بعد ان اعلن عشرات الطيارين عن عدم استعدادهم للخدمة في حكومة “ديكتاتورية تسعى الى القضاء على منظومة القضاء”.
ان مجمل هذه المكاسب الامنية والسياسية والاعلامية التى تحققت في اللحظة الأولى من عملية الإغتيال، كانت مرهونة بعدم قدرة حركة الجهاد الاسلامي على الرد بشكل واسع وقوي، او ان يكون ردها قصير المدى زمنيا ومحدود المدى جغرافيا (الغلاف) دون ان يتسبب في وقوع خسائر بشرية.

رد الجهاد الإسلامي

بعد 36 ساعة من الترقب المشوب بالتوتر، وبعد ان اثبتت حركة الجهاد الاسلامي قدرتها على امتصاص الضربة وانها لا تزال تحافظ على سيطرة كاملة على قواتها، ولديها قدرٌ عالٍ من ضبط النفس، وبعد ان اعادت ترتيب اوضاعها الميدانية ، جاء ردها منفرداً (كما توقع نتنياهو) ولكن قوياً ومنتظماً.
ان مجرد التأخر في الرد وعدم الانجرار وراء مخطط نتنياهو منح حركة الجهاد القدرة على استعادة زمام المبادرة، وهيأ لها الميدان لتقول كلمتها.
امتد القتال خمسة ايام وتخللته مفاجات عسكرية غير محسوبة مثل قدرة صواريخ الجهاد على ضرب مدن المركز (تل ابيب وجوش دان ومشارف القدس) كما استطاعت ان توقع خسائر بشرية في مدينة رحوفوت في وسط البلاد (قتيلة واصابة مباشرة لمنزل)، وهو ما هدد بفقدان كافة المكاسب التي تحقق في الضربة المباغته الاولى.

النتائج: مزيد من تراجع قدرة الردع الإسرائيلية

تضمنت وثيقة وقف اطلاق النار التي عرضتها مصر على حركة الجهادج الاسلامي واسرائيل بنداً غامضاً ينص على “عدم استهداف الافراد” وهو ما يحيل ضمنا الى التراجع عن سياسة الاغتيالات وفقدان نتنياهو لأهم مكسب حققه في في هذه المعركة.
ان اصرار حركة الجهاد الاسلامي، التي استطاعت ان تدير جولة القتال بالتوازي مع ادارتها لقناة التفاوض غير المباشرة، والوصول الى تهدئة متفق عليها برعاية مصر والامم المتحدة، اكسبها شعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني، وجعلها تظهر نداً في القتال اقليمياً واسرائيلياً.
المتابع للسلوك الاسرائيلي وتحذيرات الخبراء العسكريين الحاليين والقادة السابقين لاجهزة الأمن من اطالة أمد القتال، بكل ما ينطوي على من الخشية من وقوع خسائر بشرية، والأهم تزايد الضغط الشعبي على حركة حماس وهو ما قد يدفعها الى الانخراط في المواجهة، بكل ما لهذا من خطورة في فتح جبهات جديدة وتوسع مدى وكثافة الصواريخ، يثبت ان الطرف الذي كان يسابق الزمن ويتصرف بحذر في غاراته على قطاع غزة، ويعيد التأكيد مرة تلو الاخرى انها لا تستهدف سوى حركة الجهاد حصرا، هي إسرائيل، وهو ما اعتبر نوعاً من الردع الذاتي، وان اسرائيل تصرفت كمردوعة بدل ان تستعيد الردع.
كما ان قدرة حركة الجهاد على ضرب مدن في مركز اسرائيل ثَبَّتَ معادلةً مفادها ان الاغتيال سيقابل بقصف المدن الكبرى، وهو ما يفقد سياسة الاغتيالات قدرتها على الردع، ناهيك عن التراجع الضمني عنها اسرائيليا في وثيقة وقف اطلاق النار.

نظرية الردع الإسرائيلية

ان تعريف مفهوم الردع [4] في الادبيات الاسرائيلية كما حددته دراسة معهد ابحاث الامن القومي الاسرائيلي، والتي اجرت مسحاً لهذا المفهوم، منذ عهد العصابات الصهيونية وما قبل انشاء اسرائيل، والذي عبر عنه القيادي في التيار التصحيحي اليميني زئيف جابوتنسكي وسكه في نظريته المشهورة “الجدار الحديدي” ومن ثم مساهمة دافيد بن غوريون اول رئيس وزراء ووزير امن اسرائيلي والذي يعد اب نظرية الامن الحديثة ومؤسس الجيش الإسرائيلي. لقد صاغ بن غوريون عقيدة الجيش القتالية القائمة على ثلاثة اضلع (الردع، الحسم، والاحباط المسبق”الانذار”)، وصولا الى الوثيقة الاسراتيجية التي نشرت من قبل منظومة الامن الاسرائيلية في 2015 [5] التي تشدد جميعها على “مركزية الردع” كمركب اساسي في نظرية الأمن الاسرائيلية.
ان نظرية الردع، لا تعني توقف جولة القتال بتوافقات او تقصير امد القتال كهدف بحد ذاته بل ” الاكتفاء بالتهديد لمنع العدو من تنفيذ عدوان” ودفع اي طرفٍ معادٍ لاسرائيل الى عدم المجازفة بتحديها، وان يبقى يشعر دوما ان الدخول في جولة قتال معها، لن تحقق له شيء، وبالمقابل ابقاء يدها (اسرائيل) طليقة، وحفظ تفوقها النوعي على كافة اعداءها مجتمعين، وهو ما دفع الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية الى اطلاق تحذير علني[6] بأن “صورة الردع الاسرائيلية تتهشم” امام اعدائها.
ان دراسة  واستقراءالجولة الاخيرة من القتال بين اسرائيل وحزب الله، تثبت ان نظرية الردع في تراجع، وانها فقدت مضمونها، ذلك ان مجرد تجرأ (العدو وهو في هذه الحالة حركة الجهاد الاسلامي) على الرد او ابداء الاستعداد لتوجيه ضربات موجعة في العمق الاسرائيلي والابقاء على استعداداته للقتال مستقبلا يتنافى مع الفكرة الاساسية التي صاغتها منظومة الأمن الاسرائيلية وحاولت ان تمنع من خلالها خصومها من قتالها او الاستعداد ومراكمة عوامل القوة لقتالها.

 

 

 

*عصمت منصور كاتب وباحث فلسطيني متخصص في الشأن الاسرائيلي.

 

—————————————————————

الهوامش:

[1] وفق التصريح الذي نقل عنه ونشر في موقع (اكتواليا العبري) في يوم 9 مايو/ايار 2023

[2]موقع اكتواليا العبري بتاريخ 9 مايو/ايار 2023

[3] نقلا عن موقع (واللا العبري) الذي اشار الى تصريحات المستشارة القانونية ومسوغات عدم عقد جلسة كابينيت.

[4] تقرير معهد ابحاث الامن القومي الاسرائيلي بعنوان “الردع الاسرائيلي في القرن ال21”

[5] وثيقة دراسية حول الردع الاسرائيلي للباحث الإنير غولوب وهو باحث رئيس في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي وخبير في العلاقات الدولية والاستراتيجية. الوثيقة مكونة من 13 صفحة وهي تتعمق في مفهوم الردع كونه واحداً من مكونات ألأمن القومي الاسرائيلي الاستراتيجية حيث تعيد تعريفه وتناقشه في ظل المتغيرات الدولية (نهاية الحرب الباردة وتوقيع اتفاقيات سلام مع دول مجاورة وانتقال المواجهة والتهديد من مواجهة مع جيوش عربية الى مليشيات وحركات مقاومة) وتحول السلاح الصاروخي والمسيرات الى ادوات رئيسية في القتال.

[6] تقرير للقناة السابعة الاسرائيلية تحت عنوان “الاستخبارات في تحذير استثنائي ونادر: الردع يتلاشى”. نشر في 4 ابريل/نيسان 2023.