قاموس الأخلاق الجديد

صورة تعبيريه - المصدر: pixabay.com

قاموس الأخلاق الجديد

محمد فاضل العبيدلي

ما زلت اتذكر تلك الايام التي كان السائقون يتبادلون التحيات والشكر  والإبتسام وهم يترفقون ببعضهم  في الشوارع والطرقات، يفسحون المسارات لبعضهم ويومئون لبعضهم بالشكر  بأيديهم او برنة خفيفة من بوق السيارة. يعطون اولوية العبور لبعضهم، لا يشغلون الاضواء العالية غالباً ويطفئونها حالما يرون سيارة قادمة من الاتجاه المعاكس مراعاة للسائقين الآخرين. لا يقودون بسرعة عالية وسط المناطق السكنية وفي الشوارع الا لظرف طارئ، ان كانوا متوجهين الى مستشفى او ما شابه.

الآن وبمقياس زمني فحسب، سيرى الجميع أن ذلك التهذيب كان جزءاً من منظومة أخلاق لحقها التدهور لصالح قيم من نوع آخر غارقة كثيراً في النفعية حتى وان كانت جزءا من ايديولوجية تتغني بالقيم الكبرى سواء اكانت قيما دينية او انسانية عامة.

مثال التهذيب في الطريق هذا، هو تمرين ذهني وجدت انه قد يكون مناسباً للإحاطة بالتغيير الذي طرأ [تعبير ملطف للمعنى الأشد وطأة لمفردة: التردي] على منظومة الأخلاق لا على مستوى الحياة اليومية فحسب، بل على مستوى أكبر إمتد للخطاب السياسي الرائج في ايامنا هذه.

في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، انجذبنا نحو السياسة بدافع وحيد هو حس العدالة الاجتماعية لا أكثر . حتى الانجذاب نحو اكثر الطروحات راديكالية، لم يكن اكثر من تعبير عن كمية الغضب التي تختزنها نفوسنا المثقلة بهموم صراع وجودي مثل الصراع العربي/الصهيوني وانعدام المساواة والفقر وغيرها مما يثير الغضب. على هذا تم وصف [تحوير دبلوماسي لمفردتي: هجاء وقدح] جيلنا دوماً وحتى اليوم بأنه “مثالي” أو متعلق بــ”المثاليات”.

مثاليتنا هذه قادتنا هذه الأيام لأن نرى في ما يجري في “الغوطة الشرقية” للمدنيين أمراً مستهجناً ويستحق ان يرتفع الصوت من أجله. لكن الحس الإنساني تعرض لإعادة تعريف في السنوات الأخيرة ولم يعد له تعريف واحد بل تعريفات مختلفة وقابلة للتغيير حسب النزاع المعني وحسب البلد المعني وحسب الأطراف المتورطة فيه، أي أن المفهوم والتعريف الواضح والمحدد للحس الإنساني أصبح أمراً استنسابياً.

قبل الغوطة الشرقية، دفعنا مثاليتنا هذه لان نكتب عن مأساة المدنيين الجوعى في “مضايا” وهي نفس المثالية التي تدفعنا للتعاطف مع أي ضحية انسانية في اي مكان وفي اي بلد وأيا كانت الاطراف المتورطة في نزاع يحول المدنيين الى ضحايا تدفع أكلاف هذا النزاع.

لكن في الاسابيع القليلة الماضية، قرأت العديد من المقالات التي تهون من شأن ما يثار حول الضحايا المدنيين في “الغوطة الشرقية” تماماً بنفس منوال ما كان يتم حيال مجاعة “مضايا” مثلاً أو عند الحديث عن ضحايا البراميل المتفجرة.  تصدر هذه الآراء  من كتاب يقفون في صف النظام، لكن هذا لا يمثل مشكلة بالنسبة لي على الأقل، فهم أحرار في اتخاذ مواقفهم السياسية، لكن المشكلة هي التهوين من معاناة المدنيين. تهوين يجعلنا وكأننا بحاجة لإعادة تصفح كتاب مدرسي يقول ان مجرد وجود نزاع مسلح يعني بالضرورة وجود ضحايا مدنيين. وأن التعاطف مع الضحايا المدنيين لا يعني تعبيراً عن موقف سياسي على طريقة الثنائيات التي يشتهر بها العرب “مع أو ضد”.

لقد تكرر الأمر في اكثر من بلد ومع اكثر من مأساة، وبات يتعين علينا قبل الكتابة عن مآس مماثلة ان نكتب ذلك النوع من مقدمات اثبات حسن النية على طريقة “لست مع المعارضة لكني” أو “لست مع النظام لكن اذا” أو  “لست طائفيا لكن”.   واذا وضعنا تفاصيل الجدل السياسي والمماحكات حول اوضاع مشابهة في هذا البلد او ذاك، فإن ما يقلقني في الموضوع كله هو ان الحس الإنساني لم يعد يملك مفهوما موحداً، بل مفهوم متغير واستنسابي وقابل للتفصيل الى الحد الذي يمكن ان يصبح فيه المرء انسانيا في هذا النزاع وفاشياً في نزاع آخر لأن ضحاياه لا يعنون له شيئاً.

لقد اصبحت هذه الاستنسابية في النظر للضحايا في اي مكان أمراً تشترك فيه الحكومات والمعارضة. ففي مقابل هذا التهوين، يمارس خصوم النظام تهوينهم الخاص طالما تعلق الأمر بفظاعات يرتكبها افراد تنظيمات جهادية أو غيرها سواء بحق أسرى الجيش [باعتبارهم نصيرين كفرة او أنصاراً للنظام النصيري في أسوأ الأحوال]  او أهالي البلدات التي يسيطرون عليها او الخصوم من المقاتلين الآخرين مثلما جرى في بلدة “عفرين” الكردية عندما تم التمثيل بجثة مقاتلة كردية من قبل افراد ينتمون الى احدى كتائب الجيش الحر التي تقاتل الى جانب القوات التركية.

التمثيل بجثة المقاتلة الكردية لا يمت لأي أخلاق بصلة وهو فعل من نفس طينة ما يجري في الغوطة الشرقية وقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة والحصار والتجويع. لكن رغم هذا، لم يرتفع صوت واحد من المعارضين يستنكر تلك الفعلة ولم يأخذ الأمر صدى مثلما يجري حيال مأساة أهل الغوطة الشرقية مثلاً او مآس مماثلة.

لكن الاستقصاء الدقيق لوقائع الحرب في سورية، يفصح عن ممارسات متشابهة اصبحت شائعة لدى جميع الاطراف. ففي يوميات النزاع السوري هذا، قرأنا العديد من القصص حول ممارسات شبيهة قام بها مقاتلون أكراد حيال سكان عرب عادوا الى قراهم الواقعة تحت سيطرة البيشمرجة.

الخلاصة: عندما تتردى الأخلاق تتردى السياسة، حينها يزدهر مثل هذا المنطق والتفكير الذي يجعل البعض انسانياً حيال مجزرة ما  وفاشياً حيال مجزرة أخرى لمجرد أن ضحاياها لا يعنون له شيئاً، ليسوا من طائفته ولا من عرقه او من حزبه أو لونه.