العقل الفلسطيني

العدد 295 من مجلة شؤون فلسطينية (ربيع 2015)

العقل الفلسطيني

 

محمد فاضل العبيدلي

تلازم انطلاق الثورة الفلسطينية في 1 يناير 1965 مع حدث آخر مهم لكنه لا يثير الانتباه. فبعد أقل من شهرين من انطلاق الثورة، تأسس مركز الابحاث الفلسطيني في 28 فبراير 1965 كأحد مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964. سيمثل هذا التلازم ملامح المقاربة التي كانت تحكم النضال الفلسطيني لعقود ثلاثة لاحقة في فترة مثلت أوج النضال الفلسطيني.

لقد كان ذلك المركز أول مركز ابحاث من نوعه في البلدان العربية، فأهم وأشهر مركز ابحاث ودراسات عربي وهو مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أنشأ في عام 1968، أي بعد تأسيس نظيره الفلسطيني بنحو عامين. لقد كان تلازم الثورة مع تأسيس المركز تعبيراً عن رؤية شاملة للنضال الفلسطيني تربط البندقية بالمعركة الثقافية والفكرية الاشمل مع العدو. على هذا المستوى، مثل مركز الابحاث الفلسطيني بدوريته “شؤون فلسطينية” واصداراته من الكتب ونشاط التوثيق الذي كان يقوم به والرصد الدقيق لكل ما له صله بإسرائيل، الجزء الأكبر من العقل الفلسطيني الذي كان يقارع اسرائيل على المستوى الشامل.

ضمن هذا الفهم الشامل للصراع مع اسرائيل، كان مركز الابحاث الفلسطيني عنواناً لنضال دؤوب ومثابر  انخرطت فيه نخبة من المثقفين الفلسطينين في المهجر مثل الدكتور ادوارد سعيد والبروفيسور ابراهيم ابولغد والبروفيسور رشيد الخالدي ود. فايز ود. انيس صايغ والدكتور مهدي عبدالهادي والشاعر محمود درويش وغيرهم العشرات من نخبة المثقفين والاكاديميين الفلسطينيين.

لقد لعب هؤلاء ادوارا نوعية ومميزة في النضال الفلسطيني عبر نضالهم الفكري والثقافي الدؤوب الذي استطاعوا من خلاله كسب تأييد قطاعات واسعة ومؤثرة من المثقفين في اوروبا على وجه الخصوص. لقد كانوا يملكون المعرفة والعلم وكانوا يعرفون كيف يخاطبون الغرب ومؤسساته الثقافية والفكرية بلغة الثقافة والفكر، لم يكونوا مقاتلين لكنهم كانوا افضل سفراء للثورة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني. على هذا النحو، جسدت منظمة التحرير في تلك السنوات الثورة في صورتها المثلى بوصفها ثورة شاملة تتلازم فيها البندقية بالفكر والثقافة.

لقد تعلمت اجيال من العرب الكثير من هذا الدور الريادي للمثقفين الفلسطينيين لا على مستوى النضال ضد الصهاينة فحسب، بل العمل وفق اسس علمية في النضال ضد الاسرائيليين وهو ما يبرزه الدور الذي لعبته الدوريات والمجلات والكراسات الفكرية والسياسية التي كان يصدرها مركز الابحاث الفلسطينية والمؤسسات الثقافية الفلسطينية الاخرى.

لن يكون بامكاننا عرض الأهمية التي كان يمثلها مركز الابحاث الفلسطيني والأهمية التي يمثلها العمل الفكري والثقافي في النضال الفلسطيني الا عندما نتذكر  ما جرى بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين عن بيروت بعد اجتياح لبنان عام 1982.

فبعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين، لم يتوجه الاسرائيليون الى مقار منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها ولا الى مخازن السلاح، بل توجهوا من فورهم الى مركز الابحاث الفلسطيني. لقد دخل الجنود الاسرائيليون الى مبنى المركز في احد الشوارع المتفرعة من شارع الحمرا في بيروت برفقة خبراء وثائق اسرائيليين  وقاموا بنهب محتوياته كلها باشراف خبراء الوثائق الذين قاموا بتصنيف المحتويات قبل تحميلها في الصناديق التي حملوها في عشرات الشاحنات التي توجهت مباشرة الى فلسطين المحتلة.

لم يستعد الفلسطينيون وثائق المركز الا في العام التالي 1983 ضمن عملية تبادل للأسرى شملت استعادة وثائق مركز الابحاث الفلسطيني وارشيفه وتم تسليم عشرات الصناديق التي تضم وثائق المركز الى الجزائر. لكن هذه لم تكن نهاية سعيدة ولم تكن بداية لإعادة افتتاح المركز واستعادة نشاطه من جديد، بل كانت مقدمة الفصل الأخير في نهاية المركز.

تلك قصة مؤلمة للكيفية التي يمكن ان تضيع فيها المكتسبات لدينا وتتحول الى هباء بأيدينا نحن للأسف الشديد.

لكن العبرة في النهاية المأساوية لمؤسسة بحثية وثقافية مثل مركز الابحاث الفلسطيني، تماثل في محصلتها نهاية الدور  الطليعي الذي لعبته النخبة الفلسطينية المثقفة في العقود الماضية من عمر الصراع العربي – الاسرائيلي واختفاء تلك الاسماء اللامعة التي كانت في قلب ذلك الدور التاريخي.

لقد غيب الموت بعضا من هذه النخبة وتقدم العمر بآخرين، لكن ما يستوقفني في قصة مركز الابحاث الفلسطيني هو أن الفراغ الذي خلفه غياب المركز باعتباره أداة لإنتاج المعرفة ومعه نخبة فلسطينية لامعة من المثقفين، امتد ليشمل باقي العرب ايضا الذين باتوا اسرى منطق تبسيطي للصراع العربي الاسرائيلي بفعل احباطات توقف المفاوضات وصعود هذا المنطق التبسيطي الذي يكاد يصور الصراع مع اسرائيل احيانا وكأنه صراع بين حارات (ضربونا فلنرد عليهم).

منطق بدأت تسوده للأسف مقولات غير عقلانية وعدمية، بل ان اخطر ما فيه هو ان المثقفين العرب باتوا لا يملكون اي حصانة من الدعاية والحرب النفسية الاسرائيلية التي باتت تستحوذ عليهم بشكل لا يصدق، في مقابل غياب كامل لمصادر  وأدوات المعرفة الفلسطينية مثلما كان عليه الوضع في تلك العقود الذهبية للنضال الفلسطيني. لقد كانت ادوات المعرفة والمتابعة اليومية والتوثيق متاحة لدى الفلسطينيين وكانت تقوم بدورها الفاعل لا على مستوى الفلسطينيين بل العرب ايضا يسندها في هذا نشاط حثيث لنخبة من المفكرين والمثقفين اللامعين بإنتاجهم الفكري الثقافي الدؤوب الذي لم يتوقف. اين ذهبت كل هذه الادوات التي كانت تتيح للفلسطينيين مقارعة اسرائيل فكريا وثقافياً؟

العبرة الأهم هي أن اسرائيل لم تتوقف يوما عن استهداف العقل الفلسطيني بالمعنى الأشمل،  أي انها لا تريد ان تواجه شعبا يفكر بعقلانية، فهل يعقل ان نسندها نحن ونقدم لها خدمة مجانية بتغييب دور المثقفين ومؤسسات البحث؟ أين ذلك العقل الفلسطيني الجبار؟