سذاجة تجارنا ومناهضيهم

شغل البحرينيون بالجدل في الأيام الأخيرة من العام الماضي بوفد من يهود الولايات المتحدة وبمقاطع مصورة لرقصهم بالقلنسوات اليهودية والشمعدان في مجلس أحد تجار البحرين، ومشاهد أخرى للرقص في باب البحرين. من وجهة نظري، فإن كل القصة والجدل الذي تلاها ليست سوى دليل جديد على مدى السذاجة والتسطيح الذي بات يلف البحرينيين ونخبتهم التجارية ونخبتهم السياسية أيضاً حيال القضية الفلسطينية في وقتها الراهن.

فالجدل الذي دار خلال الأيام القليلة الماضية أظهر أن كلا طرفيه (ممن حضر اللقاء ومناهضيهم) بعيدون تماماً عن مجريات الأوضاع الخاصة بالقضية الفلسطينية وتطوراتها. ولا يعرفون عنها أبعد من عناوين خاطفة واعتقادات متوارثة تعيد إنتاجها ماكينات الدعاية الإسرائيلية والصحافة الغربية عموماً، تتمحور بشأن تفوق إسرائيلي لا يمكن مواجهته ولا التأثير عليه ولا تغييره. إنها مفارقة كبرى تلك التي يعيشها العرب والفلسطينيون منذ أكثر من عقدين عندما أقام الفلسطينيون سلطتهم على جزء من أرضهم في أول خطوة لمسار طويل لبناء الدولة المستقلة. المفارقة الكامنة في تراجع الاهتمام العربي رسميّاً وشعبيّاً بالقضية الفلسطينية في ذروة الحاجة لهذا الدعم في المراحل الأخيرة من النضال الفلسطيني الطويل.

تبدأ قصة سذاجة النخب البحرينية العام 2005 مع نشأة «حركة المقاطعة الفلسطينية» في الضفة الغربية على يد مجموعة من أساتذة الجامعات الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني. الحركة التي تعرف اختصاراً بــ «BDS» أي بالانجليزية  (Boycott, Divestment and Sanctions)  اي المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. شرعت الحركة في التحرك لتحقيق نوعين من المقاطعة: اقتصادية تتمثل في مقاطعة المنتجات والسلع (من المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية والجولان) والشركات التي تتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي وتسهم فيه، ومقاطعة ثقافية للجامعات والمؤسسات التعليمية التي تقيم نشاطات لها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتتعاون مع الاحتلال بأي شكل.

لقد توجت جهود حركة المقاطعة على المستوى الدولي بإعلان الاتحاد الأوروبي العام 2015 تمييز بضائع وسلع المستوطنات الاسرائيلية بملصقات خاصة تظهر مصدرها، وهي خطوة مهما كان النقاش حولها تعني بالدرجة الأولى عدم اعتراف الاتحاد الاوروبي باحتلال اسرائيل للضفة الغربية. وبلغت موجة المقاطعة الحكومات الاقليمية الاوروبية مثل حكومة اسكتلندا التي أصدرت تعميماً لأجهزتها ومؤسساتها بعدم التعامل مع منتجات المستوطنات الاسرائيلية اعتباراً من العام 2014، وتقوم بتجديد التعميم كل عام. وفي الولايات المتحدة، أعلنت جمعية العلماء الأميركيين وهي أكبر وأهم جمعية أكاديمية في الولايات المتحدة مقاطعتها للجامعات الاسرائيلية التي تتعاون مع الاحتلال، مثل جامعة حيفا وجامعة بار ايلان. وشهدت بعض الجامعات الأميركية حركة متنامية من أجل الدعوة للمقاطعة الأكاديمية للجامعات الاسرائيلية نشطت فيها مجموعة طالبية تدعى «العدالة من أجل فلسطين”.

وحققت المقاطعة الثقافية والأكاديمية انتصاراً مدوياً عندما أعلن العالم الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ العام 2013 رفضه لحضور مؤتمر علمي في تل أبيب برعاية الرئيس الاسرائيلي الاسبق شمعون بيريز احتجاجاً على استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية. هذه المقاطعة التي دفعت بيريز (يتحمل مسئولية مجزرة قانا في جنوب لبنان العام 1996) للقول في خطاب ألقاه في الخامس من يناير/ كانون الثاني 2014 أمام مؤتمر للسفراء الإسرائيليين، إن “المقاطعة الاقتصادية أخطر على اسرائيل من التهديدات الأمنية”. وفي 31 من الشهر نفسه، صرح بيريز لصحيفة “غلوبز” الاقتصادية قائلاً: “نحن نعتاش من التصدير، ويكفي أن تشيح بوجهها عنا شركة واحدة مثل شركة المياه الهولندية التي ألغت عقداً مع شركة المياه الاسرائيلية (ميكوروت)… الأضرار اليوم أكثر تأثيراً من أضرار الحرب. في قضايا الأمن بإمكاننا أن نطلب مساعدة الولايات المتحدة، لكن في قضايا الاقتصاد لن يستطيعوا مساعدتنا”.

أما وزير المالية الاسرائيلي وقتذاك يائير ليبد فيشرح التأثير المؤلم لحركة المقاطعة بالأرقام. ففي خطاب له أمام مركز دراسات الأمن الوطني في جامعة تل ابيب في 29 يناير 2014، قال ليبد: “إن تقديرات الخسائر التي ستلحق بالاقتصاد الاسرائيلي نتيجة المقاطعة ستصل إلى 20 بليون شيكل (نحو 6 مليارات دولار) وإن قطاع الصناعة سيخسر نحو 11 مليار شيكل (نحو 3 مليارات دولار) وأن 9800 عامل سيخسرون وظائفهم بشكل فوري مع نهاية العام”.

بالإمكان مراجعة موقع حركة المقاطعة الفلسطينية (BDS) على شبكة الانترنت لمعرفة المزيد، لكن هذا النضال الدؤوب دفع بدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا لإصدار قوانين وصفت بأنها كارثية ومناهضة لحرية التعبير، لمواجهة تعاظم دعوات المقاطعة على أراضيها مثل القانون الذي أصدره رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون ويقضي بتجريم مقاطعة السلع والبضائع الاسرائيلية على أسس أخلاقية.

إن هذا النضال هو جزء من وضع لا يجد الاسرائيليون فيه أنفسهم بوضع المتفوق إلا بالحرب الدعائية، وحركات العلاقات العامة التي يجيدها ذلك المعتوه بنيامين نتنياهو. فإذا التفت نتنياهو إلى الضفة الغربية سيجد أبومازن والسلطة الفلسطينية التي مهما تفنن الهجاؤون العرب في السخرية منها فهي سلطة ماضية في ترسيخ أسس الدولة مع مفاوضات سلام مجمدة. ومثلما يقدم تعنت اسرائيل سبباً رئيسياً لتوقف المفاوضات، فإن هذه المفاوضات توقفت أيضاً لأن الفلسطينيين لم يقدموا أي تنازل فيها، وعليه فإن أبومازن على رغم ضعفه وعلى رغم كل مواويل الهجاء والردح التي يقابل بها، يبقى عدواً بغيضاً للإسرائيليين مثل سلفه الراحل أبوعمار. فها هو يستقبل الرؤساء والسفراء والمبعوثين الأجانب ووزراء الخارجية في استقبالات رسمية وبروتوكول دول، في حين يتم استقباله في غالب الدول التي يزورها استقبالات رسمية باعتباره رئيس دولة. إن نتنياهو وجنرالاته السايكوباثيين يعرفون جيداً أن سلام الضفة الغربية وهدوءها ليس خنوعاً؛ بل هدنة يتم فيها بناء دولة وترسيخ مقوماتها الاقتصادية والسيادية بصبر ومثابرة عبر العلاقات والاتفاقات الاقتصادية والنضال السياسي مع دول العالم، وعبر ترسيخ وجود الدولة سواء على مستوى متطلبات الحياة اليومية؛ بل وحتى استخدام أدوات القسر لفرض القانون والنظام.

وإن التفتوا إلى غزة فلن يجدوا سوى حماس وقبضتها القوية على القطاع، وجيشها المتنامي خبرة وعتاداً مهما قيل من انتقادات لنزعات الاستبداد وتراجع الحريات ومستويات المعيشة المتدنية وترسيخ الانقسام. فتلك كلها قضايا لا تعني إسرائيل بل تعني الفلسطينيين أنفسهم. فما الذي يتعين عمله بالنسبة للإسرائيليين؟

اعتمد الاسرائيليون منذ نحو أعوام، وبالتزامن مع انطلاق محادثات الملف النووي بين ايران ومجموعة 5+1 استراتيجية دعائية تقوم بالأساس على الترويج لعلاقات سرية وخفية قائمة بين اسرائيل ودول الخليج.

تنطلق هذه “الاستراتيجية الدعائية” على أساس سياق عام فرضته الحوادث، وهو أن محادثات الملف النووي الإيراني ولاحقاً الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في فيينا العام 2015، يقترح (نظرياً) أن هناك مصلحة لدى دول الخليج في التعاون مع إسرائيل لمواجهة “التغول الإيراني” وأي نتائج للتفاهمات التي يمكن أن تسفر عنها تلك المفاوضات مع الغرب.

هكذا راح الاسرائيليون يبنون استراتيجيتهم الدعائية على هذا السياق المفترض، أما وسائل وأدوات ترويج ثيمات هذه الاستراتيجية الدعاية فهي متعددة: تصريحات لمسؤولين اسرائيليين، قصص تزرع في الصحف الغربية وتلتقطها الصحف العربية من دون تمحيص (مقابل مخفف لمفردة بغباء)، أخبار وتقارير تنشرها وسائل الإعلام الإسرائيلية، مواقع إنترنت باللغة العربية يديرها الموساد الإسرائيلي، مراكز أبحاث مثل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (تابع للوبي الصهيوني في اميركا)، قصص يتم ترويجها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ففي عدوان العام 2014 على غزة مثلاً، أطلق الاسرائيليون على لسان مسئول عسكري سابق تصريحاً يقول إن الإمارات تقف مع إسرائيل في عدوانها على غزة. إن تلك الإشاعة استغلت حقيقة حالة العداء بين الإمارات وتنظيم الإخوان المسلمين لتطلق هذه الكذبة التي تصدى لها في وقتها رئيس وزراء حكومة حماس اسماعيل هنية ودافع عن الإمارات، لكن ما غاب عن السذج من العرب الذين أعادوا نشر تلك الإشاعة عبر هواتفهم النقالة على طريقة (كما وصلني… أو بقليل من الشتائم والانفعال) هي أن الهلال الاحمر الاماراتي كان يوزع المساعدات في غزة بينما كانت طائرات إسرائيل الحربية ومدافعها تقصف مدن القطاع وتقتل أهله. هناك أخبار وتقارير ودراسات من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى من هذه النوعية نفسها نشرت وستنشر أيضاً في المستقبل تحقيقاً للقاعدة الذهبية في الدعاية التي أرساها وزير الدعاية النازي الفذ بول جوزيف غوبلز: “تكرار الكذبة كي يسهل تصديقها”.

منذ اللحظات الأولى لبث مقاطع رقص الوفد اليهودي بالقلنسوات في المجلس وفي باب البحرين، لم يساورني الشك لحظة واحدة في أن القصة كلها مرتبة ومدبرة مسبقاً من الاسرائيليين، ولم تسعفهم لنجاحها سوى سذاجة ربعنا. أما المستهدف من مقاطع الرقص فهم الفلسطينيون بالدرجة الأولى والعالم في المقام الثاني. فرسالة المشاهد الراقصة تقول للفلسطينيين إن أشقاءكم قد تخلوا عنكم. وللعالم: العرب يرقصون معنا فعن أي احتلال تتحدثون وأي انسحاب.

كلا الطرفين من جماعتنا، أي التجار الذين حضروا اللقاء ومناهضيهم، لا يدركون على ما يبدو أن إسرائيل تعيش هواجس وجودية منذ أعوام: مقاطعة وعزلة دولية متنامية، صدود دبلوماسي اوروبي وعالمي جعل نتنياهو لا يزور أي بلد ولسنوات سوى اميركا وروسيا التي طلبت زيارته للتنسيق بشأن سورية فحسب. دول العالم بأسرها تطالبها بالانسحاب من الاراضي الفلسطينية وتقول لنتنياهو: “كفى عشرين عاماً من التهرب من استحقاقات السلام”.

إن اسوأ ما في الأمر من حيث التوقيت هو ان مشاهد الرقص تلك قد انتشرت بعد يومين فقط من هزيمة سياسية ودبلوماسية كبرى تلقتها اسرائيل مع تصويت مجلس الأمن لقرار يطالب بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. لكن أفضل ما يمكن ان يقوم به التجار ممن حضروا ذلك اللقاء ومناهضيهم للرد على هذا الاختراق الاسرائيلي هو العمل معاً لدعم حركة المقاطعة الفلسطينية والتنسيق معها بشكل فعال ومستمر ودائم ودعم السلطة الفلسطينية، ودعم أهلنا في غزة عوضاً عن إصدار البيانات والتبريرات وتبادل الاتهامات. آن الأوان للفعل لا التأسي ولا التراشق الإعلامي.