إعادة إنتاج الصهيونية أم صراع على الحكم؟

الصورة: Shutterstock

إعادة إنتاج الصهيونية أم صراع على الحكم؟

عصمت منصور*

بلغت المظاهرات وموجة الاحتجاجات ضد الإصلاحات القضائية التي يقودها رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو وشركاؤه في حكومة اليمين ذروتها، في ليلة السادس والعشرين من آذار/ مارس عندما تدفق عشرات الآلاف من المحتجين بشكل عفوي في القدس المحتلة وتل ابيب، وقاموا بإغلاق شوارع رئيسية، واجتياز الحواجز الأمنية التي تحيط بمنزل نتنياهو، وذلك بعد إعلانه عن إقالة وزير الامن يوآف غلانت من منصبه، إثر مطالبته بوقف التشريعات بشكل فوري بسبب “خطرها الفوري والمباشر والملموس على أمن دولة اسرائيل” والشروع في حوار داخلي بهدف التوصل الى صيغة تعبر عن أوسع توافق ممكن.

إقالة غلانت كانت مفاجئة، وأصابت المستويات الأمنية والسياسية والإعلامية بصدمة، ذلك أنها عبرت عن استهتار ولا مبالاة مقلقة من قبل نتنياهو إزاء المخاطر التي عبر عنها غلانت، والذي بدوره عبر عن توصيات وخلاصات واستنتاجات المنظومة الأمنية التي يقف على رأسها، والتي تشكل العصب الحساس والعمود الفقري في بقاء وحماية وجود اسرائيل، والتي رغم أهمية دورها، الا انها لا تقوى على التعبير عن نفسها واتخاذ مواقف سياسية او أخلاقية من القضايا الداخلية والخارجية، سوى من خلال الوزير الذي يمثلها ويعبر عنها سياسياً.

تحول يوآف غلانت، الذي ينتمي الى حزب الليكود، ويعتبر من المقربين جداً لنتنياهو، الى بطل شعبي في نظر المحتجين، والصوت القوي الذي ينذر بالكوارث التي قد تترتب على المضي في خطة الاصلاح التي يقودها وزير العدل ياريف ليفين المدعوم من نتنياهو، كما أنه اعطى مزيدا من الآمال بنجاح موجة الاحتجاجات كونه شكل أول مظاهر التصدع في ائتلاف نتنياهو لا بل في حزبه (الليكود) ايضاً.

  بعد اقل من 24 ساعة من الغليان الذي اختزل الاحتقان وموجات التظاهر التي استمرت لاثني عشر اسبوعا وصلت فيها اعداد المتظاهرين الى اكثر من نصف مليون متظاهر، وقف نتنياهو أمام الكاميرات واعلن عن تجميد التشريعات، والاستجابة لدعوات الحوار تحت مظلة رئيس الدولة. فيما يلي الجزء الاول من ملف يتناول هذه الأزمة الداخلية في اسرائيل. يتناول الجزء الثاني شرحا لطبيعة التعديلات القانونية التي تسببت في الأزمة فيما يتناول الجزء الثالث عرضاً وتحليلاً لطبيعة ردود الفعل داخليا وخارجيا والتي تظهر بدورها عمق هذه الأزمة وتأثيرها الدولي.

 

طبيعة الإصلاحات وجذورها الاجتماعية والاثنية والطبقية 

لم ينه إعلان نتنياهو عن تجميد التشريعات موجة الاحتجاج ولا منسوب الاحتقان المرتفع في الشارع الاسرائيلي، ذلك ان طبيعة الإصلاحات، والتحولات الاجتماعية والإثنية والايديولوجية والديموغرافية التي شهدتها اسرائيل على مدى سبعة عقود، أعمق من هذا الاعلان الفضفاض والمحاط بكثير من الشك وعدم الثقة، وذلك لا يتعلق بالثقة بنتنياهو وتاريخه الطويل في المراوغة ونقض العهود والكذب، بل بطبيعة الحكومة اليمينية والراديكالية المتطرفة والعنصرية وتركيبتها[1] والأحزاب المكونة لها واجنداتهم.

يتكون الائتلاف الحالي والذي تشكل بعد مخاض عسير وأربع جولات انتخابات، تخللتها فترة قصيرة، حكم فيها ائتلاف التغيير بقيادة  يائير لبيدرئيس حزب “يوجد مستقبل” العلماني الليبرالي بالشراكة مع نفتالي بينت الذي تزعم حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف، مدة سنة واحدة، من 64 عضو كنيست يمثلون خمسة احزاب رئيسية هي:

أولا: حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو وله 32 مقعداً في الكنيست

ثانيا: قائمة الصهيونية الدينية وهي ائتلاف من ثلاثة أحزاب هي الصهيونية الدينية برئاسة بتسلئيل سموتريتش، و”عوتسماه يهوديت” برئاسة إيتامار بن غفير، وحزب نوعم الديني برئاسة  آفي ماعوز.

ثالثاً: حزب شاس الديني الشرقي والذي يرأسه اريه درعي وله 11 مقعداً.

رابعاً: حزب يهدوت هتوراة الديني  الغربي (الأشكنازي) وقد حصل على 7 مقاعد.

خامساً: حزب الصهيونية الدينية الذي يرأسه بتسليئل سموتريتش ويمثل اتجاهات المستوطنين والقوميين الدينيين وقد حصل على 7 مقاعد.

لا تتميز الحكومة السابعة والثلاثون في تاريخ إسرائيل والسادسة في تاريخ نتنياهو بكونها حكومة ائتلاف أحزاب اليمين واليمين المتطرف فقط، دون اشراك اي حزب من احزاب يمين الوسط او اليسار، بل ايضا في كونها تضم لأول مرة وزراء متطرفين معروفين بمواقفهم المحافظة اجتماعيا والمتزمتة دينيا أمثال ماعوز وبن غفير. لقد جعل هذا برنامجها  مثيراً لحفيظة وهواجس قطاعات واسعة داخل المجتمع الاسرائيلي، خاصة النخب الاشكنازية المؤسسة للدولة والمهيمنة على مفاصل حيوية في راس الهرم السياسي والمالي والاعلامي والأمني. فلقد باتت هذه النخب الاشكنازية تشعر ان الركائز الاساسية التي بنيت عليها دولة اسرائيل عند انشائها، وعملية التطور التي عاشتها والأسس التي ارستها خاصة فيما يتعلق بالتعددية الليبرالية، والانفتاح الاجتماعي وانعدام التزمت الديني والفصل بين السلطات وحرية الاعلام وحفظ مكانة الجيش كبوتقة صهر، كلها باتت مهددة، وان اليمين المحافظ اجتماعيا والمتزمت دينياً والمتطرف قومياً، سوف يستغل الأغلبية التي يمتلكها داخل الكنيست من اجل إعادة صياغة الدولة ومؤسساتها بما يخدم توجهاته ويترجم أجنداته اليمينية المحافظة.

هذه المخاوف وحالة الهستيريا لدى المعارضة، وما قابلها من عناد وإصرار على طرح قضية الإصلاحات على شكل رزمة واحدة وضمن جدول زمني سريع ومختصر، انما تعكس الطبيعة الطبقية والاجتماعية والإثنية لدى كل معسكر من المعسكرين المتصارعين .

 

معارضة وموالاة: خلفيات

أكثر من نصف عدد اعضاء حكومة نتنياهو السادسة هم من الاحزاب الدينية المتزمتة، والآخرون من الاحزاب القومية الدينية الاستيطانية.

حزب الليكود الذي يستند في جماهيريته إلى أصوات اليهود الشرقيين، والذين أوصلوه الى الحكم لأول مرة في عهد الزعيم التاريخي والمؤسس للحزب مناحيم بيغن في العام 1977 بات يضم متدينين ايضاً، حيث ضمت قائمته اربعة اعضاء كنيست متدينين بين صفوفها. لقد تحول الليكود مع الوقت من حزبً (أشكنازيً) الى الحزب الذي يقود اليوم تيار أقصى اليمين الجديد بعد ان شهد تحولات متواصلة أدت إلى تحوله من حزب  يميني ليبرالي إلى حزب يميني شعبوي.

المستوطنون ايضاً والذين يجدون تعبيرهم السياسي في الصهيونية الدينية وأحزاب اليمين المتطرف وقطاعات اخرى منهم في الليكود، فقد ارتفع تمثيلهم في هذه الكنيست الى عشرة أعضاء، وهو رقم غير مسبوق، مقابل اثيوبيين اثنين ودرزي واحد وعدم وجود اي عضو كنيست عربي ضمن قوائم الأحزاب الصهيونية  او خارج قوائم الأحزاب العربية.

في المقابل تتشكل احزاب المعارضة من أحزاب حلت تاريخياً مكان حزب العمل الذي ترأسه بن غوريون عند انشاء الدولة، والذي لم يحصل سوى على خمسة مقاعد في الانتخابات الاخيرة، بينما حصل حزب يوجد مستقبل الذي يرأسه يائير لبيد والذي يمثل الطبقة الوسطى الليبرالية وقطاع رجال الأعمال على 24 مقعداً. اما حزب “المعسكر الرسمية” او الوطني الاسرائيلي الذي اسسه رئيس الاركان السابق بيني غانتس، والذي يحاول من خلاله إحياء ارث بن غوريون والحلول مكان حزب العمل التاريخي، وتمثيل الكيبوتسات (المزارع الجماعية) ونخب الجيش والمؤسسة الأمنية وقطاعات العمال، فقد حصل على 12 مقعداً. أما حزب ميرتس اليساري فقد إنهار تماماً وغاب عن الكنيست ال37 لأول مرة منذ تأسيسه.

أدركت احزب المعارضة التي عجزت عن الاحتفاظ بالحكم، وفقدت الأغلبية في الكنيست، ان معركتها مع حكومة اليمين الجديد يجب ان تدار في الشارع، وهذا ما ألمح اليه قادتها حتى قبل تشكيل الحكومة، ذلك ان نتنياهو يمتلك اغلبية مريحة ويستطيع ان يمرر الإصلاحات التي يريدها والتي ستقود الى إعادة صياغة الدولة، حيث اتضح ان اليمين الجديد “يسير باتجاه إعادة بناء المشروع الصهيوني على أسس جديدة تستبدل الصهيونية العلمانية الإسرائيلية الرخوة، بأخرى تقوم على القومية اليهودية وقيم المحافظة والتفوق اليهودي وحصرية الحقوق الجماعية بين النهر والبحر باليهود، واستكمال تحقيق كامل السيادة اليهودية على “أرض إسرائيل”. [2].

 

الحسم من خلال الشارع

منذ الأسبوع الأول الذي باشرت فيه حكومة نتنياهو وشركاؤه في اليمين واليمين المتطرف عملها، شهد الشارع الإسرائيلي حراكاً غير مسبوق في أمده او الأعداد التي ساهمت به.

فلقد تصاعدت حدة المظاهرات شيئا فشيا الى ان بلغت قرابة النصف مليون متظاهر في الأسبوع الاخير من شهر اذار/مارس. إن استمرارية وديمومة المظاهرات وتنامي الحراك الرافض لإصلاحات نتنياهو وحكومته، يطرح السؤال حول من يقود ويقف خلف وينظم هذه المظاهرات.

فلقد اتهم يائير نتنياهو نجل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الولايات المتحدة بانها هي من يقف خلف المظاهرات ويمولها، بينما اشار أعضاء كنيست آخرون الى جهات خارجية دون تحديد هويتها وان كانوا يلمحون الى الولايات المتحدة واوروبا.

لم تخف الولايات المتحدة امتعاضها من تشكيلة حكومة نتنياهو بسبب برنامجها الذي لم يأت على ذكر عملية السلام أو القضية الفلسطينية، وبدل ذلك أيد الضم وتوسيع المستوطنات، وأسند حقائب وزارية مهمة لوزراء متطرفين، بالإضافة لوجود وزراء معروفين بماضيهم الإرهابي ومواقفهم المتشددة، وعدائهم لغير اليهود وتطلعاتهم الاستيطانية وتأييدهم لمشاريع الضم ورفض حل الدولتين. ومع انطلاق المظاهرات أبدت الإدارة الاميركية ارتياحاً كبيراً عبر عنه وزير الخارجية  انتوني بلينكن في اسرائيل عندما عبر عن دعمه لمطالب المتظاهرين ودعا نتنياهو الى خلق حالة من التوافق الواسع قبل إقرار خطته التي أعدها لإصلاح القضاء واعتبرها المعارضون انقلابا على القضاء ومساعٍ  تعكس نية مبيتة لإضعافه.

اكتفت الولايات المتحدة بالبيانات التي تصدر عن وزارة الخارجية او الناطق باسم البيت الابيض، كما انها امتنعت عن دعوة نتنياهو الى البيت الأبيض عملا بتقليد تاريخي معروف يقضي بأن يستقبل الرئيس الامريكي رئيس الحكومة الاسرائيلية فور تشكيله لحكومته لدعمها والتوافق معه على سياساتها خاصة فيما يتعلق بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

لكن التدخل الامريكي بلغ ذروته في الاتصال الذي الهاتفي الذي اجراه الرئيس الامريكي جو بايدن مع نتنياهو في 20 من مارس/آذار واعلن خلاله عن تأييده لمطالب المتظاهرين وحث نتنياهو على وقف التشريعات الاشكالية التي شرع بها.

الدعم الامريكي سياسياً وإعلامياً لا يفسر ديمومة وحجم المظاهرات، رغم انه أحد اسبابها. السبب الحقيقي يكمن في قادتها الحقيقيين، وتركيبتها الاثنية الايديولوجية الطبقية، والمصالح التي تدافع عنها والتي تتقاطع مع الولايات المتحدة ودول الغرب الحليفة ومصالحها.

قاد موجة الاحتجاجات وادارها منذ اللحظة الأولى شخصيات ونخب غير ممثلة او لم تعد ممثلة في الكنيست  من سياسيين سابقين أبرزهم  ايهود باراك وهو جنرال ورئيس اركان ورئيس حكومة  أسبق وزعيم حزب العمل اليساري العمالي المؤسس للدولة، و بوغي يعالون المنتمي سياسياً الآن الى حزب بتوجهات ليبرالية بعد أن انشق عن حزب الليكود، وفي خلفيته العسكرية فهو جنرال تولى رئاسة الاركان ووزارة الأمن ويعتبر أبرز القائمين على الاحتجاجات والناطقين بإسم المتظاهرين.

يضاف الى هؤلاء تسيبي ليفني وهي رئيسة حزب كاديما الذي اسسه رئيس الوزراء السابق ارئيل شارون وشغلت موقع وزيرة الخارجية في حكومة ايهود المرت.

تضم القائمة أيضا  ايهود اولمرت وهو رئيس حكومة سابق وشريك شارون في تأسيس حرب كاديما الذي قاد الانفصال عن غزة، و دان حالوتسرئيس سابق لسلاح الجو ورئيس اركان سابق. أيضا يوفال ديسكن رئيس جهاز الامن العام السابق (الشاباك).

الى جانب هذه الشخصيات، انضم لموجة الاحتجاجات عشرات الطيارين وقادة الأجهزة والجيش السابقين، كما وقع رؤساء شركات التقنية العالية (الهاي تك) ورئيس البنك المركزي وقضاة سابقون في محكمة العدل العليا، ومئات الكتاب والاعلاميين وأكثر من 400 شخصية أمنية ورؤساء الجامعات المركزية، كالجامعة العبرية وجامعة تل أبيب على عرائض تدعم المظاهرات بحيث اجتمعت النخب الأمنية والاقتصادية والاكاديمية والاعلامية في حركة احتجاج واسعة وموحدة.

الفئات المشاركة في الاحتجاجات تنتمي الى اليمين الليبرالي ويمين الوسط واليسار الصهيوني[3] او من بات يطلق عليهم اسم يمين الوسط المعتدل مقابل يمين جديد فاشي تغلب عليه النزعة المحافظة والغُلُوّ وممن لم يشارك في معظمه في تأسيس الدولة او جاء اليها مهاجراً بعد انشائها مثل اليهود الشرقيين (السفارديم) والقوميين الدينيين او ممن لا يخدمون في الجيش مثل المتدينين المتزمتين.

يمكن الاستدلال على هذا ايضا عمرياً حيث تميزت التظاهرات بكون أغلب المشاركين بها من الفئات العمرية الأكبر سناً من غير الشباب ممن ينتمون الى أحزاب اليسار الصهيوني ويمين الوسط، من الجيل المؤسس للصهيونية.

 

 

*عصمت منصور كاتب وصحافي فلسطيني متخصص في الشأن الإسرائيلي.

 

هوامش:

[1] انظر: “متجانسة، متطرفة وسامة، صورة حكومة نتنياهو السادسة”، موقع كالكليست الاقتصادي الإسرائيلي، 29 ديسمبر/كانون الثاني 2022.

[2] انظر: “في صراع المستعمرين المؤسسين والمستعمرين المستجدين”، د. هنيدة غانم. ملحق المشهد الإسرائيلي، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 27 مارس/آذار 2023.

[3]  استطلاع شهر يناير/ كانون الثاني 2023: ثلث الإسرائيليين يخشون من اندلاع حرب أهلية”. تمار هيرمان، د. أور عنابي، موقع معهد الديموقراطية الإسرائيلي في 3 فبراير/آب 2023