الطريق الى اكتوبر 1973.. مفاتيح الحرب وصناعها

الدكتور محمود يوسف سعادة - المصدر: صحف ومواقع مصرية

الطريق الى اكتوبر 1973.. مفاتيح الحرب وصناعها

 

محمد فاضل العبيدلي*

هذه السلسلة من موضوعات “الطريق الى اكتوبر” مكرسة لعرض ومناقشة بعض المحطات الاساسية التي تعرض لوقائع ومحطات اساسية من الصراع العربي الاسرائيلي تظهر ان اسرائيل يمكن هزيمتها ويمكن التفوق عليها، بل انها ذاقت مرارة هزائم متكررة اكثر مرة في هذا الصراع الطويل رغم استحواذ فكرة “تفوق اسرائيل” على اذهان الكثير من العرب حتى اليوم للأسف الشديد.

ليس افضل من الحرب بين مصر واسرائيل لكي تظهر ان التخطيط العلمي ومعرفة نقاط الضعف ونقاط القوة ووضع الخطط على نحو علمي/ احترافي يمكن ان يكشف زيف ادعاءات اسرائيل واعتمادها المطلق على الحرب الدعائية ولربما اكثر من قوتها العسكرية المؤمنة بدعم الولايات المتحدة والغرب عموماً.

 

محمود يوسف سعادة: شيفرة وقود صواريخ الدفاع الجوي

بعد قرار الرئيس الراحل انور السادات بطرد الخبراء السوفييت من مصر عام 1972، تباطأ  السوفييت في رد فعل حال القرار في تزويد مصر بشحنات  الاسلحة المتفق عليها بل انهم امتنعوا عن تزويدها بوقود صواريخ الدفاع الجوي وهو وقود خاص له فترة صلاحية محددة. وحرمان مصر من هذا الوقود يعني ان حائط الصواريخ المصري سيصبح بلا قيمة وان مصر لن تستطيع ان تخوض الحرب لاسترداد سيناء التي يحتلها الاسرائيليون.

لجأ قادة الجيش المصري الى الدكتور مهندس محمود يوسف سعادة الذي كان يعمل بقسم التجارب نصف الصناعية بالمركز القومي للبحوث وقتذاك فقام بفحص وقود الصواريخ منتهي الصلاحية ونجح بعد الدراسة والبحث في إستخلاص240 لترًا صالحة للإستعمال.  وتم إستيراد عينة من الوقود من إحدى الدول وقام الدكتور سعادة بفك شفرتها ومعرفة نسب مكوناتها واستيراد هذه المكونات من الخارج.

ونجح الخبراء المدنيين والعسكريين تحت إشرافه في إنتاج 45 طنًا من وقود الصواريخ، وبهذا أصبح الدفاع الجوي المصري في كامل الاستعداد لتنفيذ دوره المخطط له في الحرب.

كان نجاح الدكتور  سعادة في تخليق الوقود المصري للصواريخ أحد أهم أسباب نجاح حائط صواريخ الدفاع الجوي المصري فى تدمير 326 طائرة إسرائيلية فى حرب أكتوبر/تشرين الاول 1973 .

 

اللواء باقي زكي يوسف: اختراق الساتر الترابي بمضخات الدفع العالي 

اللواء باقي زكي يوسف هو صاحب فكرة فتح ثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف باستخدام خراطيم المياه ذات الدفع العالي. خريج كلية الهندسة بجامعة عين شمس الذي عمل في مشروع السد العالي في اسوان برتبة رائد وتالياً تولى رئاسة فرع مركبات الفرقة 19 غرب قناة السويس ضمن الجيش الثالث الميداني برتبة مقدم.

اقترح فكرة استخدام مضخات الدفع العالي لفتح ثغرات في الساتر الترابي للمرة الأولى عام 1969 وتم ابقاء الفكرة سرية حتى تنفيذها في يوم الحرب. لمعت الفكرة في ذهن اللواء الراحل باقي من خبرة عمله في تجريف التربة في بناء السد العالي. ومع الصعوبات التي كانت تعترض قادة الجيش وتشغل تفكيرهم في كيفية التغلب على التحدي الذي يمثله الساتر الترابي، حيث كانت افضل التقديرات لهذه المهمة هي 15 ساعة باستخدام القنابل والمتفجرات مع خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات. لكن مع استخدام مضحات مياه الضغط العالي في يوم الحرب لم يستغرق فتح الثغرات سوى 3 ساعات.

استطاع سلاح المهندسين لدى بدء الحرب تنفيذ الثغرة الأولى في غضون 3 ساعات وحسب اللواء باقي “دخلنا الحرب الساعة 2، على الساعة 6 كان مفتوح أول ثغرة، على 10 بالليل كان مفتوح 60 ثغرة من بورسعيد للسويس”.

المهندس احمد حسن مأمون: مادة سد فتحات النابالم 

من المعوقات التي وضعتها إسرائيل أمام القوات المصرية قبل معارك اكتوبر 73 مواسير النابالم. وهذه المواسير وضعتها تحت سطح الأرض علي جانب قناة السويس ويسع كل منها 200 طن من النابالم والجازولين وإذا ما اشتعلت تتولد منها حرارة تصل الى 700 درجة تحترق معها القوارب والدبابات البرمائية, بل يمكن أن يشوي الأسماك في قاع قناة ويصل وهج حرارتها الى بعد  200 متر.

كان الرائد مهندس أحمد حسن مأمون بالقوات البحرية وتوصل الى ابتكار مادة تتجمد في الماء وابلغ قائده بإبتكاره هذا والذي اوصله بدوره الى الرئيس السادات فتقرر التكتم عليه المادة المبتكرة.

وفي عملية استخبارية طويلة ومعقدة، تم التوصل الى تحديد مواقع المواسير والخراطيم التي تمدها بالمواد المشتعلة. وفي يوم الخامس من اكتوبر قبل اندلاع الحرب ب12 ساعة، قام رجال من الضفادع البشرية المصرية بالسباحة في القناة ليلاً والوصول الى فتحات مواسير النابالم وسدها بالمادة التي ابتكرها المهندس مأمون، فيما تم قطع خراطيم التوصيل ايضا. لولا ذلك لما نجحت عمليات عبور الاف من القوات المصرية الى الضفة الشرقية للقناة.

كانت هذه العملية هي العملية الاكثر تعقيداً في خطة الحرب وكان الجميع يعلم ان فشل العملية كان سيعرض الحرب كلها للفشل لا بسبب صعوبة عبور القناة بل لان الفشل كان سيقرع اجراس الانذار لدى الاسرائيليين بحرب وشيكة قبل وقوعها بحوالي 12 ساعة. 

 

الصول احمد ادريس: الشفرة النوبية

الرقيب في سلاح الحدود الذي رحل قبل اسابيع احمد ادريس هو صاحب اقتراح استخدام اللغة النوبية (لغة الكنوز) شفرة للجيش المصري حيث انها لغة محكية وليست مكتوبة وليس لها قواميس ويقتصر استخدامها على ابناء النوبة فقط. اقترح الفكرة بعد توالي اختراقات الاسرائيليين للرسائل الشفرية لقادة الجيش المصري، فاقترح الفكرة على رؤسائه عام 1971 ووصلت الفكرة الى رئيس الأركان ثم الى الرئيس السادات. قابله السادات وسمع منه الفكرة وامره بكتمان الأمر وعدم البوح به والا فانه سيواجه الإعدام ان قام بذلك.

تم جمع المجندين النوبيين في الجيش وسلاح الحدود وتم اختيارهم من ابناء النوبة القديمة قبل 1964 حسب نصيحة الصول احمد ادريس لأن ابناء النوبة القديمة يعرفون اللغة اما جيل ما بعد بناء السد العالي (1964) فلا يعرفون اللغة.

بدأ الجيش المصري في استخدام اللغة النوبية منذ العام 1971 عبر ارسال المجندين النوبة خلف خطوط الاسرائيليين في سيناء لبث المعلومات الاستخبارية عن تحركات ومواقع الجيش الاسرائيلي.

يقول ادريس في احدى مقابلاته التلفزيونية “تم نقلي إلى قيادة الجيش لأشرف على تنفيذ الشفرة، مستعينا بأفراد نوبيين تواجدوا في صحراء سيناء، وكانت مهمتهم عد المركبات التي تستخدمها قوات العدو الإسرائيلي، وتمت تسمية المحطات في الصحراء بأسماء نوبية وتواجدت مع رئيس العمليات وقائد العمليات وقادة الكتائب وقادة الفصائل، وانسحبوا يوم الجمعة 5 أكتوبر بعد أداء مهامهم وبدأت الحرب يوم السبت 6 أكتوبر عام 1973” .

واضاف “أطلقنا اسماء نوبية على المركبات والعربات (..) العسكري أطلقنا عليه اسم “ميسر” يعنى جدى وضباط الصف سميناهم “فج” يعنى عنزة (..) الضباط سميناهم من ملازم حتى رائد ” ايجت” يعنى “خروف” ومن المقدم حتى اللواء سميناه ” قدش” يعنى حمار (..) وسمينا المخابرات “أوسلمجنى” وتعنى الثعبان”.

كانت اشهر العبارات الشفرية باللغة النوبية هي كلمات بدء الحرب “استياكي بوجومرو.. أوشريا ساع آوي” أي: افتح النار الساعة الثانية”. احتفظ احمد ادريس بالسر 46 عاماً، اي حتى يوم تكريمه من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسي في احتفالات الذكرى 44 للحرب.

المعلومة الاهم هنا ان الجيش المصري سبق له ان استخدم اللغة النوبية شفرة له في حرب 1948 اثناء حصار الفالوجة وهو ما اسهم في تضليل القوات الصهيونية التي كانت تحاصر الوحدات المصرية في الفالوجة والخروج منها باقل الخسائر.

عبرة هذه الشخصيات التي شكلت اسهاماتها مفاتيح لنصر اكتوبر 1973 تتمثل في التالي:

[1] كل الافكار التي جاءت بها هذه الشخصيات كانت افكاراً مبنية على دراسات علمية وجهد بحثي قائم على التجربة والخطأ الى جانب الجهد الاستخباري الذي دعم ابحاثهم.

[2] جميعهم في الاساس خريجي جامعات مصرية وواحد خريج ثانوية ازهرية وكانوا يعملون ضمن تخصصاتهم سواء في المركز القومي للبحوث (سعادة) او في فروع القوات المسلحة  (باقي زكي يوسف واحمد حسن مأمون). وهم بلا شك استفادوا من تجاربهم في الحياة العملية. ان حقيقة مثل هذه كفيلة بان تجعلنا نفكر قليلا في هذه الولولة المستمرة لدينا حول انظمة التعليم ومؤسسات التعليم وبعض الخرافات الرائجة مثل تفضيل الجامعات الاجنبية على مثيلاتها العربية. ان امثال محمد سعادة وباقي زكي يوسف واحمد حسن مأمون وغيرهم المئات يثبتون ان المشكلة قد تكون في مكان آخر، عقليات القائمين مثلا او نخب تعاني عقد نقص.

[3] فكرة المرحوم الصول احمد ادريس تنم هي الأخرى عن مغزى جدير بالاهتمام، وهو اننا نملك احيانا ما قد يبدو ثانويا وغير ذا اهمية لكنه قد يمثل سلاحاً سريا ومفتاحا من مفاتيح النصر.

[4] المغزى الأهم في قصص هؤلاء وانجازاتهم هو ان التحدي يدفعنا للإبداع والإنجاز. ليس علينا سوى أن نرفع احساسنا بالتحدي ووضعه في اطاره الصحيح دون مواربة والعمل على مواجهته بنفس الروح التي تحلى بها ذلك الجيل.

 

 

المصادر:

المجموعة 73 مؤرخين – صحف ومواقع مصرية متنوعة – موسوعة ويكيبيديا