الطريق الى اكتوبر 1973.. كمين طليبة

المصدر: صوت روسيا

الطريق الى اكتوبر 1973.. كمين طليبة

محمد فاضل العبيدلي*

على مدى السنوات الماضية، كنت اتساءل دوما عن الاسباب التي تدفع الكثير من الكتاب والصحافيين وعموم المثقفين العرب الى ان يصبحوا ضحايا سهلة للدعاية والحرب والنفسية الاسرائيلية؟ آخر الاحداث التي كشفت استحواذ الحرب الدعائية الاسرائيلية هي الشائعات التي انتجتها ماكينة الحرب الدعائية والنفسية الصهيونية والتي رافقت وقائع فرار الأسرى الفلسطينيين الستة في شهر اغسطس/آب الماضي والتي تداولها المثقفون العرب بتلقائية ويسر ودون تمحيص او شك منطقي.

إن الوقوع تحت استحواذ الحرب الدعائية والنفسية الاسرائيلية ظاهرة قديمة من ظواهر الصراع العربي – الاسرائيلي ولعله اخطر سلاح بيد الصهاينة عندما يصدق العرب ما يصدر عن اسرائيل بكل سهولة ويسر دون أي شك منطقي او تدقيق او تمحيص ولا يصدقون حقائق مضادة لإسرائيل ولدعايات اسرائيل لمجرد انها حقائق مرتبطة بهذا البلد العربي او ذلك.

هذه السلسلة من موضوعات “الطريق الى اكتوبر1973” مكرسة لعرض ومناقشة بعض المحطات الاساسية التي تعرض لوقائع ومحطات اساسية من الصراع العربي الاسرائيلي تظهر ان اسرائيل يمكن هزيمتها ويمكن التفوق عليها، بل انها ذاقت مرارة هزائم متكررة اكثر مرة في هذا الصراع الطويل رغم استحواذ فكرة “تفوق اسرائيل” على اذهان الكثير من العرب حتى اليوم للأسف الشديد.

ليس افضل من الحرب بين مصر واسرائيل لكي تظهر ان التخطيط العلمي ومعرفة نقاط الضعف ونقاط القوة ووضع الخطط على نحو علمي/ احترافي يمكن ان يكشف زيف ادعاءات اسرائيل واعتمادها المطلق على الحرب الدعائية ولربما اكثر من قوتها العسكرية المؤمنة بدعم الولايات المتحدة والغرب عموماً.

في سلسلة مقالات “الطريق الى اكتوبر 1973″، يمكننا البدء من أول معركة جوية قلبت المعادلة بين الطيران الحربي المصري والطيران الصهيوني، وهي ما بات يعرف في الادبيات العسكرية المصرية بإسم “كمين طليبة” نسبة الى اللواء ممدوح طليبة الذي خطط لهذا الكمين.

كان طلبية في العام 1968 قائدا للواء مقاتلات ميغ 21 يتكون من سربين من هذه المقاتلات. وكان ميزان القوة ما يزال حتى ذلك الوقت يميل لصالح سلاح الجو الصهيوني المتفوق في امكانيات مقاتلاته بشكل لا يقاس احياناً.

ورغم ضربة جوية سابقة نفذها سلاح الجو المصري بعد 40 يوماً من هزيمة يونيو/حزيران 1967 على قواعد عسكرية صهيونية في سيناء نفذتها مقاتلات مصرية من طراز “ميغ 17″ و”سوخوي 7” في حماية مقاتلات “ميغ 21” إبان رئاسة الفريق مدكور أبوالعز لسلاح الطيران المصري، إلا ان الميزان كان ما يزال يميل لصالح الطيران الاسرائيلي مع التفوق التقني للمقاتلات الاسرائيلية في مدى العمليات والكشف الراداري والتسليح

لم تكن هناك اشتباكات جوية بين المقاتلات المصرية والصهيونية وان جرت فان غالبها كانت تشهد اسقاط عدد من المقاتلات المصرية او عودة المقاتلات منفردة الى اية قواعد او مطارات قريبة نظراً لان وقودها كان على وشك النفاذ. كان الاسرائيليون يعرفون مظلات الدفاع الجوي والمدى العملياتي للمقاتلات المصرية طبقا لحسابات الوقود والسرعة وكان الطيار المصري يواجه مشكلتين: الوقود، أي مدى العمليات وزمنها اضافة الى صواريخ المقاتلات الاسرائيلية المتفوقة في الامكانيات. فلقد كانت المقاتلات الاسرائيلية من طراز “فانتوم إف 4”  ذات رادار يكشف الى مدى ابعد من رادار المقاتلة “ميغ 21”  كما ان الفانتوم تتفوق في التسليح ب8 صواريخ جو – جو من طراز سبارو وسايد ويندر،  مقابل صاروخين من طراز  فيمبل كي 13 التي كان حلف الناتو يطلق عليها “اتول 2 – AA” في المقاتلة ميغ 21 اضافة الى مدفع رشاش عيار 23 من نوع جريازيف شيبانوف. الميزة الوحيدة التي تملكها مقاتلة ميغ 21 امام الفانتوم إف -4 هي المناورة والمرونة.

لقد فكر قادة سلاح الجو المصري طويلاً في الكيفية التي يمكنهم بها التغلب على المشكلات التي تعترضهم خصوصاً في المدى العملياتي لمقاتلاتهم وفقر التسليح مقارنة بالمقاتلات الصهيونية والفارق التقني بينهما ايضا.

توصل اللواء طليبة ومساعديه الى استنتاج بأن الرادارات الاسرائيلية تعاني نفس المشكلة التي تعانيها الرادارات المصرية وهي عدم قدرتها على اكتشاف الطيران المنخفض (تحت زاوية افق 45 درجة)  والمنخفض جدا. بناء على هذا الاستنتاج، تدارس طليبه مع بعض طياريه امكانية التخطيط لاشتباك جوي مع الاسرائيليين. ولما تم التوصل لخطة هذا الاشتباك تدرب الطيارون عليه مع الموجهين الأرضيين أيضا واتفقوا على عبارات مشفرة في محادثات الموجه مع الطيارين.

في يوم 23 اكتوبر من العام 1968 تم تنفيذ الكمين على النحو التالي: تطير 4 مقاتلات من طراز “ميغ 21” على ارتفاع اعتيادي بحيث يكتشفها الرادار الاسرائيلي ومن ثم يرسل الاسرائيليون مقاتلات للاشتباك معها. اضافة الى ذلك تطير مقاتلتان من طراز ميغ 21 على مستوى منخفض جدا لا يكشفه الرادار في مهمة “قنص حر”.

لقد سار الكمين بشكل مثالي جدا، فلقد التقط الاسرائيليون الطعم وظهرت مقاتلتان اسرائيليتان من طراز “ميراج 3 ” لمواجهة المقاتلات المصرية الأربع قبل ان تنضم اربع مقاتلات اسرائيلية اضافية من مطار المليز لتعزيز المقاتلتين الاخريين. هنا قامت مقاتلات الطعم المصرية بمناورة عالية الجرأة جعلتها تصبح خلف المقاتلات الاسرائيلية. وبتعليمات من الموجه الأرضي، قام طيارا المقاتلتين المصريتين اللتين تم تكليفهما بالطيران المنخفض بالارتفاع الى الأعلى  فما لبث الطياران ان وجدا مقاتلتين اسرائيليتين امامهما فاطلقا صواريخهما تجاهها محققين اصابات مؤكدة. اما مقاتلات الطعم التي اصبحت خلف مقاتلات التعزيز الاسرائيلية فاطلقت صواريخها تجاهها فدمرت مقاتلتين أخريين فيما استدارت الطائرتان المتبقيتان بعيدا عن منطقة الاشتباك.

لقد كان كمينا مثالياً عادت معه المقاتلات المصرية جميعها سالمة الى قاعدتها في تشكيل واحد.

العبرة من هذا الاشتباك ورسائله كانت واضحة:

[1] لقد تم التخطيط للكمين بناء على معلومات علمية حول قدرة الرادارات الاسرائيلية ودراسة لأساليب القتال الجوي التي يتبعها الاسرائيليون.

[2] تم اختيار الطيارين ممن يملكون خبرة سابقة في الاشتباكات وتم التدريب على تنفيذ الكمين بين الطيارين والموجهين الارضيين.

[3]  تم تنفيذ الكمين بمهارة عالية ساهمت فيها ايضا مهارة الموجهين الأرضيين المصريين.

[4] رسالة الكمين كانت مزدوجة: للطيارين المصريين والاسرائيليين على حد سواء فحواها: مازلنا في السماء ومازلنا قادرين على أن نقف في وجهكم وان نقاتل وننتصر.

سيسارع الكثيرون للتشكيك في هذه القصة لسبب رئيس هو انهم لم يسمعوا بها (مصداقا لقاعدة.. ما لا اعرفه ليس موجوداً)، أو بالأصح لم تتكرر على اسماعهم مثلما تتكرر قصص الدعاية والحرب والنفسية الاسرائيلية (تطبيقا واستلهاما لقاعدة غوبلز في تكرار الدعاية لترسيخها). السبب الآخر قد يكون هو ميراث اعلام 1967 وهو ما لا يمكن التقليل من تأثيره واضراره البالغة. وسبب آخر لا يقل اهمية هو قصور اعلامي في عرض مثل هذه الوقائع التي لم يجر الحديث عنها الا في السنوات الأخيرة وبمبادرات من متطوعين مثل المجوعة 73 مؤرخين في مصر.

لقد كان “كمين طليبة” أحد مقدمات تحول هام سيأتي بعد حين وفي خضم حرب استنزاف بدأت منذ 1 يوليو 1967 عندما تمكنت قوة صغيرة من الصاعقة المصرية من صد كتائب مدرعات اسرائيلية حاولت احتلال منطقة “راس العش” في بورفؤاد.  لقد اكتسب المصريون خبرات عدة في حرب الاستنزاف ظهرت لاحقاً دون ريب في التخطيط العسكري المصري وصولا الى حرب السادس من اكتوبر التي اظهرت الكثير من هذه الخبرة.

مصادر:

[1]  المجموعة 73 مؤرخين.

[2] موقع لمقاتلات فانتوم اف 4 الامريكية

[3]  الموقع الرسمي لمؤسسة الطيران الروسي – مقاتلات ميغ.