وعود ورصاص للمتظاهرين.. عصاب يلف العراق

خاص للمدونة - خدمة iStock

وعود ورصاص للمتظاهرين.. عصاب يلف العراق

*سامان نوح

على مدى ستة ايام تواصلت التظاهرات التي قادها شبان في مقتبل العمر بالعاصمة العراقية بغداد وعدد من محافظات جنوب البلاد، والتي بدأت بالمطالبة باصلاحات جوهرية لمحاربة الفساد المستشري وتحسين الاقتصاد والخدمات المتداعية وتوفير فرص عمل للشباب في بلد تتجاوز نسبة البطالة فيه الـ30%، وتطورت لاحقاً بعد استخدام القوة المفرطة الى المطالبة بعزل رئيس الحكومة وكامل الطبقة السياسية الحاكمة.

المتظاهرون الذين ترواحت اعمار معظمهم ما بين 16 الى 30 عاما، بحسب نشطاء مدنيين، تحركوا دون قيادة واضحة ولا برنامج محدد، كسيول جارفة ملأت ساحات وشوارع رئيسية في العاصمة وفي مدن جنوب العراق، رفعوا شعارات طالبت بانهاء الفساد الذي تغطيه الاحزاب الحاكمة عبر آلية المحاصصة وتشكيل حكومة جديدة بعيدا عن الاحزاب تمهد لاجراء انتخابات مبكرة وفق قانون انتخابي جديد يضمن عدالة التنافس وتحت اشراف دولي.

المتظاهرون الذين واجهوا بصدورهم الرصاص المطاطي ثم الرصاص الحي، يقولون انهم سيواصلون احتجاجاتهم لأنه “ليس لديهم ما يخسرونه” في بلد غني بالنفط لكن نسبة الفقر فيه تصل الى 22%، ونحو ثلث سكانه محرومون من أبسط الخدمات ولا يستطيعون تدبر امورهم المعيشية.

رغم قطع الأنترنت واعلان حظر التجوال ومحاولة منع وسائل الاعلام من تغطية التظاهرات عبر تهديدها، الا انها أخذت بالاتساع، وبدأت القوى الأمنية في اليومين الثاني والثالث بمواجهة المتظاهرين بأقصى درجات القمع الذي تجاوز استخدام الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي الى استخدام الرصاص الحي بل وعمليات القتل قنصاً، وهو ما رفع سقف مطالب المتظاهرين الى ازالة كل الطبقة السياسية واسقاط النظام الحالي، ووقف التدخل الأجنبي في العراق، ومحاكمة كبار الفاسدين وكل من تورط بالعنف.

ومع فشل قرارات الحظر وقطع الأنترنت وزيادة مستوى العنف في انهاء الاحتجاجات، ظهرت في اليوم الرابع والخامس اطراف اخرى غير الجيش وقوى الأمن، يعتقد انها قوى  [مليشيات] خارج الدولة تابعة لجماعات سياسية، قامت بمواجهة المتظاهرين بعنف اكبر، ما اوقع نحو 120 قتيلا وأكثر من ستة آلاف جريح، لتصبح المظاهرات هي الأكثر دموية منذ العام 2003. 

جيكل ومستر هايد

منذ اليوم الأول للاحتجاجات، بدا ان هناك خطاباً مختلفاً للحكومة عن الأفعال على الأرض، فرئيس الوزراء عادل عبدالمهدي ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي كما كبار قادة البلاد، أقروا بحق التظاهر وبشرعية مطالب المتظاهرين وأعلنوا عن اجراءات لتلبية بعض المطالب بشكل سريع وبرامج لتنفيذ المطالب الاخرى، لكن على الأرض كان القمع يتم بأقصى درجاته واعتبار المتظاهرين اعداء هو الرد الحكومي.

وفيما كان العديد من قادة الاحزاب والجماعات المسلحة يعلنون تأييدهم لمطالب المتظاهرين، كانت أذرعهم على الأرض تقتل المحتجين، وحتى مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي اعلن وقوفه مع المتظاهرين وطالب برحيل الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة واجراء انتخابات مبكرة باشراف دولي، لم يتحرك فعلياً لدعم المتظاهرين ولم يقدم الوزراء التابعون له استقالاتهم من الحكومة.

رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، الذي كان يعرف بمواقفه الوسطية وبدفاعه عن الحريات بما فيها حق المواطنين في الاحتجاج، والذي اعلن عن لائحة قرارات واجراءات اصلاحية استجابة لمطالب المتظاهرين، بما فيها اطلاق تعيينات وتوفير فرص عمل وتوزيع اراض واعانات مالية اجتماعية، بدا أنه الرئيس الذي لجأ لأقصى درجات العنف في مواجهة المتظاهرين مقارنة بأسلافه، فلم يسبق ان وقع هذا العدد الضخم من الضحايا في اي تظاهرات سابقة بعد العام 2003.

وبعد اسبوع من الاحتجاجات ظهر بوضوح ان هناك خطابين متناقضين لدى الحكومة والقوى الحاكمة في البلاد، فهم من جهة يطلقون الوعود بالاصلاح ويعلنون عن رصد أموال واطلاق مشروعات، لكنهم من جهة ثانية يقمعون المتظاهرين ويمنعونهم حتى من ايصال صوتهم لوسائل الاعلام التي تم تهديدها ومنعها من العمل فضلاً عن قطع الانترنت لمنع تواصل المتظاهرين مع العالم.

الرئيس العراقي برهم صالح، دعا في كلمة متلفزة إلى حوار وطني من دون “تدخل أجنبي”، وقال ان “لا شرعية لأي عملية سياسية أو نظام سياسي لا يعمل على تحقيق متطلبات الشعب” وانتقد استخدام القوة المفرطة، لكنه دعا المتظاهرين في الوقت نفسه إلى “وقف التصعيد” وقال إن “المتربصين والمجرمين الذين واجهوا المتظاهرين والقوى الأمنية بالرصاص الحي” هم “أعداء هذا الوطن” و”أعداء الشعب”.

وبعد ليلة من الفوضى في مدينة الصدر في شرق بغداد حيث قتل 13 شخصاً في الصدامات بين المحتجين وقوات الأمن، أقرت القوات العراقية يوم الاثنين بـــ”استخدام مفرط للقوة وخارج قواعد الاشتباك المحددة”. وقرر رئيس الحكومة “سحب كافة وحدات الجيش من مدينة الصدر واستبدالها بوحدات من الشرطة الاتحادية وبدء إجراءات لمحاسبة العناصر التي ارتكبت هذه الأفعال الخاطئة”، لكن بعد ان تم مواجهة المتظاهرين باقصى درجات العنف لوقف احتجاجاتهم.

وكانت السلطات العراقية تواجه قبل ذلك كل انتقادات المدافعين عن حقوق الإنسان، بالتأكيد على كونها تتقيد “بالمعايير الدولية”، متهمة “مندسين” و”قناصين مجهولين” بإطلاق النار على المتظاهرين والقوات الأمنية على حد سواء.

وفي مواجهة خطاب الرئيس برهم صالح الذي اعلن فيه عن خارطة طريق للإصلاح والحوار بما فيه العمل لتغيير قانون الانتخابات واجراءات مكافحة الفساد وتلبية مطالب المتظاهرين، أعلن رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، أن البلاد “تواجه مؤامرة”، وان “فصائل الحشد جاهزة للتدخل” لمنع أي “انقلاب أو تمرد” في العراق.

وقال الفياض إن “هنالك من أراد التآمر على استقرار العراق ووحدته”، مؤكداً أن الحشد الشعبي يريد “إسقاط الفساد وليس إسقاط النظام”، في رد على شعارات المتظاهرين. وتابع “نعرف من يقف وراء التظاهرات، ومخطط إسقاط النظام فشل”، مشدداً على أنه “سيكون هناك قصاص لمن أراد السوء بالعراق”.

طبقة متخادمة

ذلك التناقض في الخطاب والتناقض بين الخطاب والفعل، مع اللجوء الى أعلى درجات العنف دون بروز اعتراض جدي من أي فصيل سياسي، يظهر ان مراكز القوى في البلاد، من احزاب وتيارات وقوى مسلحة، اتفقت على ان مصلحتها تقضي العمل مجتمعة على التهدئة (وهو مطلب اقليمي ايضا) لمنع تضرر مصالحها الاقتصادية والسياسية، وهذا ما قد يفضي الى بلورة نظام هرمي للسلطة اكثر وضوحا بوجود “طبقة متخادمة” تتمركز لدى اطرافها مصادر القوة والقرار الأمني والاقتصادي والسياسي.

يعطي هذا مؤشراً بأن الطبقة السياسية الحاكمة قررت المضي في التقوقع والانغلاق اكثر حتى لو تطلب ذلك اللجوء للعنف الممنهج ضد أي مطالب شعبية قد تشكل تهديدا لها، وانها سترفض خيار الانفتاح وصعود دماء جديدة وشركاء جدد في الادارة والسلطة الامنية والاقتصادية والسياسية. سيدخل خيار مثل هذا البلاد في دوامة موجات عنف متوالية مع عجز الاحزاب الحاكمة عن مواجهة الفساد وتحقيق الاصلاحات البنيوية المطلوبة لتحسين الواقع الخدمي والمعاشي في البلاد وانهاء حرمان شريحة واسعة من المجتمع في ظل تزايد السكان وقلة الموارد.

 

 

 

*سامان نوح كاتب وصحافي عراقي يرأس الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية (نيريج) ومسؤول قسم التحقيقات في مجلة “صباح كوردستان” الاسبوعية التي تصدر عن شبكة الأعلام العراقي. يمكنكم متابعة سامان على فيسبوك: https://www.facebook.com/samaannoohh