ثورة الملح والكهرباء في البصرة

المصدر: وكالة المعلومة

ثورة الملح والكهرباء في البصرة

طالب عبد العزيز*

من أبي الخصيب (20 كلم جنوب البصرة)، انطلقت تظاهرات تموز 2018 التي إجتاحت وسط وجنوب العراق، أي من المكان ذاته الذي انطلقت منه شرارة “ثورة العبيد” المعروفة في تاريخ البصرة، الثورة التي زعزعت أركان الخلافة العباسية في بغداد سنة 255 للهجرة.

وإذا كان لسان الملح الذي إندلع في شط العرب قبل أسبوعين وغمر الأرض المدينة ودخل بيوتها السببَ الأولَ في قيام الشباب بأحراق الإطارات المستعملة وسط الشارع، وقطع الطريق بين مركز المدينة وابي الخصيب، فقد كان الملح نفسه سبباً مباشراً لثورة العبيد في البصرة آنذاك، أولئك الذين أحرقت الشمس أجسادهم وهم  منحنون، يقشطون الملح عن التربة، بغية إصلاحها، بجهدٍ وكدٍ وقهر، وبمعاملة هي الأبشع من اسيادهم، فقد كانت السياط تلهب ظهورهم ولا يعطونَ غير التمر الرديء طعاماً لهم، هكذا مثلما يشعر أبناء البصرة اليوم، مع فوارق الزمن بكل تأكيد.

 

لا عمامة ولا عقال

منذ خمسة عشرا عاماً، فقد المواطن البصري والعراقي بعامة ثقته بالأحزاب الدينية الحاكمة، وإنتهى الأمر، هكذا، ولن يملك المحافظ ولا أي شخصية حكومية أخرى عصا سحرية لنزع فتيل التظاهرات. لن يكون بمقدور أي جهة سياسية أو حزبية، دينية أو عشائرية إحتواء أو قيادة التظاهرات. وقد جرّب التيار الصدري ذلك (هو المعروف بقيادته لتظاهرات كهذه) وفشل ايضاً. هناك إجماع عند المتظاهرين بأن لا يقودهم رجل دين أي رجل دين ولا شيخ عشيرة أي شيخ. وقد غذت مواقع التواصل الاجتماعي هذا النزوع، فرجل الدين منتمٍ شاء ام أبى، الى الحزب الديني وشيخ العشيرة شخصية ذيلية وموالٍ تافه لهم. تظاهرات يوليو/ تموز سنة 2018، تسجل تاريخاً استثنائياً في الحراك السياسي العراقي، إنها بلا زعامة.

 

النزاهة فاسدة والملح في المطبخ

لم تحاسب هيئة النزاهة محافظ البصرة (ماجد النصراوي) الذي تعاطى الرشوة وأخذ الرشى وظهر بالصوت والصورة لأنه ينتمي لكتلة عمار الحكيم مثلما لم تحاسب العشرات من المسؤولين الفاسدين في الحكومة وخارجها. وظل مجلس المحافظة عبارة عن مجموعة لصوص تتقاسم السلطات لكنها في الحقيقة تتقاسم المشاريع وتسرق الخزينة عبر مقاولين وهميين لم يقدموا شيئاً لبنية المدينة.

ففي كل عام تغرق البصرة بفعل مياه الامطار ذلك لأنها غير مخدومة بشبكة الصرف الصحي، التي صرفت من أجلها المليارات من الدنانير العراقية. منذ العام 2009 وماء البحر يصعد في شط العرب، حتى يصل أعالي البصرة، وراح يتكرر كل سنة تقريباً. وبزعم حل المشكلة، عقدت الحكومة عشرات المؤتمرات والندوات وذهب كثير منهم موفدين الى الخارج لكنهم لم يشرعوا بأدنى الحلول، لم يتفقوا على مكان لبناء سد ما يمنع تدفق الماء المالح. توقفت جميع المصانع الكبرى في البصرة، وهي مصانع عملاقة كالحديد والصلب والأسمدة والبتروكيمياويات والورق، منذ دخول القوات الامريكية العراق سنة 2003 ولم تعمل الحكومة الفدرالية أو المحلية على إعادة تشغيلها، فكثر جيش العاطلين.

هنالك من يرى بأن تظاهرات الشباب العاطلين عن العمل في البصرة وليدة لحظة يأس آنية، أبداً، المتظاهرون خرجوا محتجين على الأداء السياسي السيء، الذي مارسته الحكومات المتعاقبة في البصرة وبغداد، منذ العام 2003 الى اليوم. والسؤال: ماذا تتوقع حكومة بأدائها المعروف ببلادته وخوره وأخطائه من جيش العاطلين اليائسين، الذين لا يملكون منازل كما يجب، وليس لهم وظائف محترمة، وتتقطع الكهرباء في بيوتهم، وقد دخل الماء المالح صنابير الحمامات والمطابخ؟

 

العقاب بوسائل الحكومة

وماذا نتوقع من مدينة فيها أكثر من عشرين مقر لمليشيا مسلحة، فلقد ذهب معظم العاطلين عن العمل لمحاربة “داعش” لا لأنهم مؤمنون بالحرب أو حماية الوطن، بل ذهبوا لأنهم لم يجدوا عملاً، فكانت الـ 600 ألف دينار عراقي قوتاً لهم ولعائلاتهم. وقد دفع الكثير منهم ثمنها دمه. لكننا، لو بحثنا في أسباب التظاهرات والإحتجاجات والرفض لسلطة الحكومة لعثرنا على سبب رئيس يكمن في جوهر العملية السياسية كلها. إذ أن بناء المجتمع على أسس دينية وعشائرية كان خطأ فادحاً أثبتت التجربة فجاعته. لقد قتلت الاحزاب الدينية روح المواطنة عند الفرد، فنراه يسلب ويحرق ويحتج بطرق غير إنسانية، لا يعنيه المال العام، فهو يمد يده عليه، يأخذه، يسرقه، لأنَّ الحكام (اللصوص) سبقوه لسرقته، فهو يحتج بطريقتهم تلك.

قد يتصور البعض بأن تمركز التظاهرات في المناطق النفطية إنما هو دعم لإيران، يأتي نتيجة للحصار الذي تفرضه أمريكا عليها، فهي تضغط من خلال الداخل العراقي الذي يتحكم به الموالون لها، وهم كثر، لكي تمنع تدفق النفط العراقي لأسواقها، وهو أمر غير مستبعد. لكننا لو فحصنا أعداد المتظاهرين هناك، لوجدنا معظمهم من سكان المناطق المحيطة بحقول غرب القرنة والرميلة، كقرى المدينةوالحلافوباهلةوغيرها. ولعل إنتفاع بعض شيوخ العشائر والأسر الدينية من خلال جملة العقود المبرمة مع الشركات النفطية الأجنبية، وحرمان أبناء العشائر الأخرى سبباً آخراً لذلك. هناك شخصيات من (عشيرة السادة الـ…..) وعشائر نافذة أخرى يتمتعون بإمتيازات خاصة في التعاقد والاستحواذ على عقود الأعمال الثانوية، التي تتيحها تلك الشركات والتي تدر الملايين عليهم، ومن يجرؤ على منافستهم فهو هدف لهم.

 

النفط يزيح الزراعة

مجلس محافظة البصرة عمل مع الحكومة الفدرالية ووزارة النفط على إخراج البصرة من كونها مدينة زراعية، وبذلك أدخل قضاء ابي الخصيب ضمن تخطيط المدينة العمراني، مثلما باع قضاء المدينةوغرب القرنةالى الشركات النفطية. وكانت تلك الضواحي والقصبات تؤمن أكثر من 50% من حاجة المدينة في الخضار والحبوب والثروة الحيوانية، لحوم وأسماك وغيرها. إن الذين خرجوا للتظاهر ضحايا ممارسة سياسية وإقتصادية سيئة. ثم أن الحكومة لم تبن مواطنيها بشكل صحيح، بل خلقت أجيالاً مشوهةً، معاقةً في تفكيرها، زادت من حجم الجهل لديهم، عبر متوالية الدين والمذهب والعشيرة. فتراجع المواطن كإنسان، صار لغماً، متشدداً، عنيفاً، مضحياً بحياته لأجل أتفه الاسباب، مشروعا للموت مرة وللاستشهاد أخرى، في ياس واضح من حياة لا قيمة لها من وجه نظره.

وكانت الحكومة قد جعلت من قطاع النفط قطاعاً وحيداً للعمل والعيش، فالموظف العامل في قطاع النفط يتمتع براتب أفضل بكثير من أي موظف في أي قطاع آخر. لذا نجد المتظاهر يذهب الى مواقع الشركات النفطية بإعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على تأمين لقمة عيشه، وينظر الى هناك بنظرة حسد مرة وبنظرة إنتقام مرة أخرى.

 

النزوحات التي ريّفت المدينة

كانت وما زالت النزوحات السكانية من مناطق الأهواروشمال المدينة واحدة من أسباب تفشي الجريمة وإنهيار القيم المدنية عند البصريين وترييف المجتمع وتزايد نفوذ رجل الدين وشيخ العشيرة، بما غلّب حاكمية الجهل والنفاجة والعنف والإستحواذ على حاكمية العقل والعلم والتحضر والمدنية والتسامح، الأمر الذي جعل من الحكومة المحلية تعتمد في التخلص من مشاكلها على هذا الشيخ ورجل الدين ذاك في فعل سيء، جرد البصرة من هويتها الثقافية، كحاضنة مدنية وحضرية. وكان للنزوحات الكبيرة التي دخلت البصرة من مناطق الأهوارومدينة العمارةالسبب الواضح في إضعاف المدينة إقتصاديا وأمنياً وإجتماعياً.

وتتسبب المقارنة التي غالباً ما يجريها المواطن البصري مع نظيره الخليجي بألم وحسرة في روحه، وتتعاظم إذا ما سمع بان ما تنتجه مدينته يعادل إنتاج عديد من الدول تلك. هو يقول بأن البصرة التي كانت أقوى وأجمل مدن الخليج لم تعد قائمة اليوم، بفعل الإدارة السيئة التي ينتهجها الحكام “الإسلاميون الجدد”.

 

لا أحد يمسك بقرن الثور

ولكي يثأر وينتقم في ممارسة عنيفة أخيراً، ذهب المواطن المتظاهر البصري الى الشركات النفطية، لأنه يريد ان يمنع تدفق المال على الحكومة التي تمعن في سرقته وتخريب حياته، هو يسعى لإضعافها، وقطع مصدر بطشها (المال) المتدفق عليها من بيع نفط مدينته، ذلك لأنه يشعر بأن مصدر قوتها وبطشها به إنما يستل من باطن أرضه.

لكن، خطورة بقاء التظاهرات بلا زعامة قد تنحدر بها الى الفوضى، وقد شاهدنا بعضها في المناطق النفطية ومقرات الأحزاب، على الرغم من وجود عناصر متعلمة وذات تحصيل جامعي من الذين لم يجدوا فرصاً رفيعة في العمل، تحرص على الامساك بقرني الثور الهاج، فهي قد تفلح في مكان لكنها تخفق في مكان آخر بكل تأكيد، إذْ لم يترك حكام المدن فرصة من التعقل لهؤلاء. والخشية قائمة بكل تأكيد من دخولات خارجية، تسعى لتبني التظاهرات هذه، بما يُخشى منه في التأثير سلبا على إستمرارها وإنحرافها ومن ثم نتائجها.

 

 

 

 

* طالب عبدالعزيز شاعر وصحافي عراقي من مواليد البصرة. عمل في الصحافة المكتوبة والمسموعة سكرتيراً ومديراً للتحرير في صحيفة “المنارة” في البصرة. كما عمل مقدماً لبرنامج “ما قل ودل” في راديو “سوا” في واشنطن ومندوباً لصحيفة “الحياة” اللندنية ولجريدة “القبس” الكويتية.  يكتب حالياً مقالين اسبوعياً لجريدة “المدى البغدادي” ومقالين ثقافيين شهرياً لجريدة “بين النهرين” في بغداد. له سبعة كتب في الشعر والسرد وفاز كتابه “تاريخ الأسى” كأفضل كتاب صدر عام 1994 في العراق. يمكنكم زيارة حسابه على فيسبوك: https://www.facebook.com/talebabdullaziz/