أبعدوا الأمنيين عن البصرة المريضة

ارشيفية - عراق نيوز

أبعدوا الأمنيين عن البصرة المريضة

 البصريون الذين يصوتون منذ 15 عاماً بصفتهم
الطائفية والعشائرية مسؤولون عن خراب البصرة

 

هشام الهاشمي*

 

ناقشنا كثيراً كعراقيين ما نحن مدينون به للبصرة، ولكننا لم نتطرق ما فيه الكفاية إلى حقوق المدينة وأهلها والواجب علينا تجاهها. وانا أزور مدينة البصرة في اليوم الثاني من شهر يوليو/تموز الجاري، أصبحت قريباً ولو لبضع ساعات للشعور بمعاناة أهل البصرة وبجسد المدينة المريضة. لقد زحف التصحر والفقر والفساد الحكومي الى المناطق الزراعية في أطراف المدينة دفع بأهالي القرى الى النزوح الى المدينة بحثا عن الرزق في مركزها.

وهنا يتجه السؤال الواضح وبدون غموض، ماذا ورثت البصرة وأهلها من سيادة أنظمة الحكم الجمهوري منذ عام1958 وصولاً الى 2018؟

الأكيد أنها فقدت صفتها الذاتية كجوهرة مدن شمال الخليج العربي بل جوهرة شمال الجزيرة العربية وأهم حواضر التمدن في العراق والمنطقة.

والأكيد جدا أنها ورثت من تلك الأنظمة الانتفاع من ثرواتها والميل الشديد على حقوقها وكنوزها لحساب الأحزاب الحاكمة وأسرهم الفاسدة.

ينظر الخليجي الى البصري من جيل ثلاثينيات القرن السابق وما بعده، بإعتباره رجلاً متمدناً مواكباً لماديات ومعنويات الحضارة المعاصرة.

وعندما نقرأ تاريخ النهضة والتمدن لدول الخليج العربي، نرى أن عدداً من مواطني البصرة شغلوا مراكز مهمة في التخطيط والأشراف على التنفيذ في النهضة التي شهدتها هذه الدول.

ولعل البصرة ورثت من الأنظمة الحاكمة الجانب الفوضوي في التخطيط وفقدانها لسحرها الإبداعي والفني والجمالي والإجهاز على الفُلْكُلُور البصري.

 

انحدار المدينة

بعد عام 2003 تغيّرت الظروف تماما وأصبح حكم البصرة بيد من ينتخب من أبنائها ولديهم قدر جيد من الصلاحيات الإدارية والتنفيذية وحتى التشريعية، لكن إنحدار المدينة نحو هاوية التفكك وانهيار الاقتصاد وتوسع العشوائيات وفقدان الحكومة القدرة على فرض القانون وظهور تجارة المخدرات ومافياتها وإستبداد سلاح العشيرة وضعف الأمن وتهديد القضاة، جعل من البصرة مريضة جداً.

فالبصري الذي يصوت لتلك الأحزاب على مدى 15 عاماً بصفته المذهبية او العشائرية او الحزبية، هو المسؤول الأول عن ذلك الخراب.

فمع وجود مواهب عظيمة في البصرة، ومع كرم أهلها وإخلاصهم لمدينتهم وطيبة أخلاقهم، فأنه من المعيب أن تكون حياتهم العامة بهذا الوصف السيء ومن المعيب على حكام البصرة أن يكون هناك فقير وعاطل عن العمل في بصرة الخير. وثمة فكرة تختمر في نفسي لا تخلو من المشاهدات الحقيقية عن أهل البصرة بعد 2003.

بصري واحد، يعني كتلة ذكاء وأخلاق وذوق رفيع، بصريان يعني جدل وخصومة وبكائيات، أكثر من ثلاثة بصريين تعني حزباً أو عشيرة أو تجمع ديني أو احتجاج على الكهرباء والخدمات أو سلاح سائب.

واما البصري بين 1932-1958، فبصري واحد يعني شخصاً ذكياً وصاحب مهنة، وبصريان إثنان يعني تجارة أو مصنع أو رحلة علم أو فكرة منتجة جديدة، و أكثر من ذلك يعني المدنية والتحضر. إنني أؤمن بالبصري وبكل فخر ، فإن البصرة مدينة ولاّدة ويصبر أهلها على الضيم لكنهم لن يقبلوا بالذل المؤبد.

 

ديناميات المال والعلم والإبداع

لقد ولدت البصرة في خضم توسع الدعوة الإسلامية قبل 1400 سنة ثم تكرست للتجارة والعلم والتعليم، موقعها الجغرافي جعلها مركزاً للثورات الاشتراكية والأفكار المعولمة ومنصة للشعر والأدب واللغة والفن والخصومة والمدارس الجدلية الفلسفية. وتشكلت هذه المدينة المنكوبة من الهجرات الكبيرة من الجزيرة العربية واليمن وسلطنة عمان والشام ومن بلاد العجم والهند والترك، وتنوعت فيها الثقافات والديانات والقوميات والمذاهب. كانت من أهم حواضر الدولة الأموية والعباسية والبويهية والعثمانية، حيث سكن فيها الأغنياء من أعيان التجار المسلمين من العرب والعجم.

في مدينة البصرة، تشكلت ديناميات المال والعلم والإبداع، ولَم تهتم هذه المدينة بالسعي الى السلطة، مدارس العلم وخانات التجارة وأسواق البهارات والتوابل والتمر والحبوب والأعشاب الطبية.

تضخم سكان البصرة فعجت احيائها بالمهاجرين والساعين بحثا عن الرزق، والتمتع بالانتساب الى هذه المدينة التي من انتسب لها انتسب الى حسب ونسب فيه الفخر والثناء.

 

نفط البصرة

عرفت البصرة النفط في نهاية أربعينيات القرن الماضي مع اكتشاف أول حقل لها وهو الزبير عام 1948وبوشر بالتصدير منه عام 1951. وبعدها تم اكتشاف حقل الرميلةعام 1953 وبوشر بالإنتاج منه عام 1954.  وقامت الشركة ببناء الميناء العميق لغرض تحميل الناقلات العملاقة. أصبحت حقول البصرة ومنشآتها أكبر صانعين لرأس المال العراقي منتجين حوالي ‎%‎75 من نفط العراق. ونمت الحقول وتطورت وأصبح العراق من أهم الدول المنتجة للنفط في العالم بفضل نفط البصرة.

بعد عام 2003،أعطت البصرة من نفطها الكثير للعراق وساندت حكوماته، لكن الإحتجاجات البصرية تصاعدت منذ عام 2015، حتى أصبح المراقب يقول أتى زمان التغيير الاجتماعي والثقافي الكبير في البصرة. جميع سكّان البصرة يتطلعون الى مستقبل فيه قدر واضح من العدالة والحريّة والمساواة في الحقوق والثروات والواجبات، إحتجاجات غاضبة موسمها في شهر تموز/يوليو من كل سنة مع إرتفاع درجات الحرارة الى اكثر من 50درجة مئوية وانعدام الخدمات الضرورية وخاصة الكهرباء والماء وتراكم البطالة وسط الشباب. إحتجاجات تتطلع الى تغيّر واقع البصرة البائس ولا يعني لها تصرفات واستفزازات قوى الأمن شيئاً، فالمواطن البصري من شدة الظلم الذي أصابه أصبح لا يعرف ما عساه أن يفعل بهذا الانهيار الكبير الذي اصاب مدينته، وسوف تتوسع الاحتجاجات الغاضبة الى كافة نواحي البصرة ويزداد قلق الجماهير وانزعاجها.

 

مجازفة الحل الأمني

يدرك المحتج البصري أن التجاوز على مؤسسات الدولة جريمة ضد البصرة وأهلها قاطبة، وقد أحسن المحتج البصري صنعاً حينما حدد هويات هؤلاء المتجاوزين على البنى الحكومية وعزلهم بعيدا عن جموع الجماهير.

الدكتور العبادي بصفته القائد العام للقوات المسلحة خاض معارك تقليدية وهجينة لتحرير مدن العراق الشمالية والغربية التي احتلها “داعش”، وقد انتصر العراق خلال ثلاث سنوات، لكن العبادي فشل في حربه على الفساد التي أعلن عنها مرات كثيرة، كما لم يُوَف بالكثير من وعوده في برامج تمكين الإستقرار والتنمية وإعادة الأعمار وتوفير فرص عمل خارج وظائف الحكومة ودعم القطاع الخاص. ولطالما إكتفى في خطابات ما بعد “داعش” بإتهام البعض من شركاء حكومته بالفساد وأنهم من يصنع الفوضى والشائعات.

أدرك العبادي أن أكبر خطر ممكن ان يتعرض له العراق هو سوء الظن بالجماهير ومطالبهم واتهامهم بالخيانة والتخابر.

لكن إحتجاجات البصرة أتت كالعاصفة التي هبت نتيجة سوء الخدمات والبطالة، ومن المُجازفة ان تعالج هذه العاصفة الشعبية باقتراح تنفيذ حملات أمنية واعتقالات او الخطف المجحف بحق عدد كبير من الشباب الغاضب. واظن أن مدنية العبادي سوف تمنعه من اختيار قرار كهذا في نهاية حكومته، فهذا سيعرض سمعته وتاريخ عائلته النضالي للتشويه على المستوى الشخصي والعائلي.

قبل قليل دخلت في نقاش مع مسؤول أمني حول احتجاجات البصرة، وقد أخبرته أن الخطأ يكمن بالنظر الى كل محتج من الألوف المحتجة على أنه تهديد محتمل للأمن الوطني العراقي، وليس عندك أي معلومة تؤكد انهم يحتجون بإدارة أياد سرية وخفية. المعلومة في الأزمات أهم بكثير من الحكمة ونظريات المؤامرة الفاشلة.

علينا تفحص كل ما ينشر حول الاحتجاجات البصرية حتى نفهم كيف نطفئ غضبهم بإنجاز حقوقهم المشروعة وتنفيذ مطالبهم، وكل البيانات التي تدفع بها جماعات الإعلام الموالي والممول من الحكومة والأحزاب تدفع باتجاه تصنيف الإحتجاج قد تعدى على مؤسسات الدولة. لقد أبلغني أحد ضباط الأمن في البصرة أن “من يقطع الطريق على شركات النفط ويهدد الحقول النفطية هو ارهابي ومستعد لينفذ أجندة خارجية”. ضابط مثل هذا ومعيته ينبغي إبعادهم عن التكليف بإدارة الأزمة وإلا فأنه سيّء الظن بأهله وسيكون أحمقاً اذا ما استخدم القوة المميتة في معالجة الأزمة.

 

 

 

*هشام الهاشمي، باحث عراقي متخصص في شؤون الأمن الفكري والحركات المتطرفة، متخصص في الجماعات الإرهابية وفروعها وتنظيم (داعش) وأنصاره في الشرق الأوسط. أهم مؤلفاته “عالم داعش” و”تنظيم داعش من الداخل“. لمزيد من الاطلاع، زوروا صفحة الكاتب على فيسبوك: www.facebook.com/hisham.alhashimi.16