التصوف عربياً: تفكك بنيوي في علاقة الطّالب والفقيه لدى العرب

تائية إبن الفارض - جريدة الخليج

التصوف عربياً: تفكك بنيوي في علاقة الطّالب والفقيه لدى العرب

محمد الزكري

لاحظ الأمريكي ديل إيكلمان (Dale Eickelmann) بعد أن أجرى بحثاً معمقاً في سلطنة عمان[1]عام   1992، لاحظ تغيّراً بنيوياً في طبيعة العلاقات الضّابطة بين الشّيخ وطالب العلم.  ففي إطار تلقّي المعرفة الدّينيّة التّقليديّة، إكتشف أيكلمان أنه مع إرتفاع مستوى التّعليم العالي، أجاد طالب العلم القدرة على تحليل النّص الديني بشكل متطور وبذلك لم يعد الشّيخ هو المصدر الوحيد القادر على تحليل النّصوص المقدّسة. إنحسار إحتكار السّيادة التّأويليّة أدى إلى اختلال سيادي. فسيادة الشّيخ شبه المطلقة على طالب المعرفة أصبحت تتضاءل بشكل ملفت.

عاد ايكلمان الى الخليجعام  1999[2] في كتاب مهم ليؤكد لنا أن هناك تغيراً جذرياً لا في سلطنة عمان فحسب بل في الخليج العربي وكافة أنحاء العالم العربي. توقف إيكلمان مليـّا عند التكنلوجيا (إنترنت، أقمار اصطناعية، تغطيات أخبار فوريّة) وقال إنها ستغير علاقة الفرد بالجماعة الدينيّة التي ينتمي إليها. وبرر ذلك بتغير بنى قنوات المعلومات التي إصطحبت مرحلة الحداثة (أو ما بعد التّقليديّة). فالمجتمع الحداثي في لحظاته المتأخّرة يسمح بحيز أكبر للفرد من الوصول إلى المعلومات التي كان يحتكرها تقليديّا المركز من خلال شخصيّاته. وبعد تمكنه من الوصول إليها مباشرة متجاوزاً المركز التقليدي، تمكن طالب العلم بقدراته المعرفيّة التعليميّة العاليّة من أن يحلل المعلومات دون الحاجة إلى مساعدة تأويليّة أو تفسيريّة من المركز. هكذا ضعف المركز وضعف إحتكاره التأويلي وبهتت قدرته على ترويج المعلومات الممزوجة برؤيته السياسية والهويّاتية.

وهكذا قوي الفرد (طالب العلم) أمام ضعف “الشّيخ/الفقيه” مما أتاح له لا تجاوز المركز التقليدي الذي كان يزوده بالتأويلات للنصوص المقدسة فحسب، بل أن التّمكن الجديد قاد طالب العلم بجرأة الى الذّهاب إلى مراكز أخرى تنتمي إلى مبانٍ معرفية أخرى غير تلك التي نشأ عليها وذلك لكي يمارس عملية تسوق معرفي بدافع فضول ذاتي ومن ثم بعملية التلفيق الفقهي أو التّرجيح النسبي أو القطع الجذري، يتخذ موقفاً دينياً جديداً ومختلفاً.

إنها أجواء تخلخل العلاقات حتماً بين الشّيخ والمريد فاتحةً ثغرة لتغيير غير مسبوق. نجد جزئياً أو كلياً أن الشّيعي يتحرر من سيادة مرجعيّته والعلماني من سيادة أيديولوجياته والمدني من سيادة قناعاته والسّلفي من سيادة مرجعيّاته ومن ثم التّوجه إلى شيخ متصوف والمتصوفة بحثاً عن معارف جديدة ولخوض تجربة معرفيّة جديدة.

مجتمع الشّعر في الخليج العربي: حقبة ما قبل الإنترنت

قد تكون الشعوب العربية من أكثر شعوب العالم شغفاً واستهلاكاً للشعر. فعند العرب أشعار تتلوها للمناسبات الصغيرة قبل الكبيرة. أشعار تنسب إلى العرب القدماء وإلى الراهنين منهم. أشعار تتداولها نواديهم باستمرار.

والشعر نتيجة لرواج سوقه وسعة انتشاره، يصل محتواه إلى وعي ووجدان الأمة من خلال قنوات المجالس والصّالونات والمنتديات والراديو والتلفزيون والشبكة العنكبوتيّة. يبقى سؤالنا هو: ماذا لو أن الشعر أخذ من التّراث الصوفي فهل سيكون له تأثير ما في تشكيل وعي المتلقّي؟ ماذا لو أن الشعر الحديث، وهو يَروج أكثر ما يروج بين الطبقة الأكثر تحرراً وتعلماً ومدنيّة وعلمانيّة، توشح برداء من التصوف (Mysticism) فهل يصل التّصوف إلى عقول الطبقة العربيّة الحداثيّة التي تستهلك الشعر العربي الحديث؟

في دراسة نادرة نشرت تحت عنوان “توظيف التراث الصوفي في الشعر العربي الحديث، قام الأكاديمي البحريني د. حسين السّماهيجي[3] بسبر أغوار مثل تلك الأسئلة، فتطرق إلى أشعار الحداثيّين العرب من ذوي الشعبية الجماهيرية واسعة النطاق من أمثال أدونيس، محمد عفيفي مطر، صلاح عبدالصبور، جبران خليل جبران وعبدالوهاب البيّاتي. فهذه الأسماء أشتهرت بتعاملها مع التّراث الصوفي ووظفته نظرياً وإبداعياً وذوقياً في أعمالها الأدبية.

الرسالة الأهم المبثوثة في كتاب السّماهيجي هي أن الشّاعر العربي في لحظة إنتقاليّة بنيويّة قلقة. في لحظة يوشك عندها أن يتخذ الشاعر العربي قراراً بالإنتقال يعبر حينه من مبانيه الثقافيّة التقليديّة التي ألفها إلى مباني معارف حداثوية غير مألوفة. هنا يرصد السّماهيجي أن الطلائع العربيّة الشعريّة قررت أن توظف التراث الصّوفي ليكون عنواناً مألوفا ليدخل معه عالم الحداثة غير المألوف.

فالتراث الصوفي منذ أن أستعر في صدر الإسلام وهو حالة تجدّدية. فمن الحلاج إلى البسطامي إلى سمنون وابن الفارض نحن أمام “اللا مألوف”. فتراث التصوف المألوف هو تراث “اللا مألوف” المتجدد وهذا هو ما جعل شعراء العرب في الخمسينيات وما تلاها يوظفون التراث الصوفي لخلق توليفة تصالح بين دخول عالم حداثي جديد علينا كعرب مع التصوف. والأهم أن خصلة “المحاسبيّة” الصوفية تجعل كلاً من الشاعر الحداثوي والمتلقي العربي يمارس جدلاً ذاتياً وموضوعياً لا يسعى فقط إلى تطوير القصيدة بل ومعها إلى تطوير المتلقي العربي ومن خلالها تطوير كافة المجتمعات العربية.

مع كل هذا الحراك الحداثي للشعر العربي، حدث حراك ناعم تمكن وبشكل غير مباشر من جعل النص الشعري الحداثي أداة جذب إلى التّصوف بين صفوف مستهلكي أشعاره والتي لا مسناها بشكل واضح عندما تقدم جيل الخمسينيات والستينيات العمر في لحظتنا التاريخية الرّاهنة.

الشّيخ الرقمي

المجتمعات الرقميّة ذات الهواتف الذكيّة والألواح المحمولة وهبوط تكلفة شبكات الاتصال الرقمية، ساهم في خلق مجتمع خليجي رقمي هائل[4]. الإحصائيات تسير بشكل تصاعدي لتؤكد أن المجتمع الخليجي يتصدر الكثير من الدول بإنخراطه الكبير في مواقع التواصل الإجتماعي. هذا الإنخراط قاد المجتمع الخليجي إلى إكتشاف “الشيخ الرقمي”. ومن بين هؤلاء الشيوخ الرقميّون٫ إكتشف المجتمع الرقمي شيوخ التّصوّف. الشيخ الرقمي بدّل الواقع الصوفي من علاقة مباشرة قائمة على تواصل مع الشيخ في حلقته وفي مجلسه إلى تواصل غير مباشر عبر اليوتيوب. هذا التطور الرقمي في المجتمعات الرقمية سهل عملية الإطلاع على التّصوف دون الحاجة الى الالتزام مع الشيخ وهو أمر يناسب الجيل الحديث ونمط حياته مما ساهم بتشجيع أعداد كبيرة من الشباب على الإطلاع على التصوف الرقمي ومن ثم الإنجذاب نحوه.

 

مجتمع الرّواية في الخليج العربي

في الثمانينيات من القرن الماضي، كان الإقبال على قراءة الروايات أمراً غير معهود بين طبقة القرّاء الواسعة في المجتمع الخليجي. كان الشعر أكثر إنتشاراً وبعده بمسافة كبيرة يأتي استهلاك الروايات الطويلة أو القصيرة بشكل خجول جداً. الأمر بدأ يتغير في التسعينيات، لكن مع دخول الألفية الثالثة شهدنا تبدلاً نوعياً بين فئة القراء حيث برز مجتمع واسع وعريض يقبل على طلب جنس الروايات من بين مخرجات الأدب الناطق باللغة العربية.

وكما أشرنا سابقا الى أمثلة من الرّوايات ذات البعد “الرّوحاني/الصّوفي” وما كان لها من تأثير في إيقاظ الهمم الكونيّة بإتجّاه الرّوحانيات والتصوّف٫ فإن نفس تلك الروايات ترجمت إلى اللغة العربيّة وتبدأ التأثير على مجتمع الرّواية في الخليج العربي. هذه قائمة بتاريخ النشر لهذه الأمثلة من الرّوايات:

  • نشرت دار الهلال المصريّة أول ترجمة لرواية “الخيميائي” عام 1996بترجمة الأستاذ بهاء طاهر.
  • نشرت دار الخيال اللبنانيّة أول ترجمة لرواية “قوة الآن: الدليل إلى التنوير الروحي” في عام 2007بترجمة مؤيد يوسف حداد.
  • نشرت مكتبة جرير السعودية أول ترجمة لرواية “السر” في عام 2009.
  • نشرت الدار العربيّة للعلوم اللبنانيّة أول ترجمة لرواية “طعام، صلاة، حب” في عام 2010بترجمة زينة أدريس.
  • نشرت دار الآداب للنشر والتوزيع اللبنانيّة أول ترجمة لرواية “قواعد العشق الأربعون” في عام 2013بترجمة محمد درويش.

وبعد مرحلة ترجمة الروايات ذات السّحنة الصوفية، كتب الروائي السعودي محمد حسن علوانالرواية الصوفيّة الأولى بعنوان “موت صغير” المتمحورة حول حياة محي الدين بن عربيوالتي نشرتها دار السّاقي في عام 2016وفارت بجائزة الرواية العربية في العام التالي 2017.ومع نقطة الإنقلاب هذه دخل الخليج العربي رسمياً في مرحلة إنتاج تصوف روائي خاص به ليعكس رؤيته في الوجود المادي من خلال روحانية شبابية جديدة.

 

قواعد العشق للمحبين والشّعر في مجتمع رقمي

بعد نجاح كبير حققه الشاب الشّيخ الصوفي الليبي المقيم في مصر محمد عوض المنقوشبين أوساط مجتمع الفيسبوك العربي المتسائل عن التّصوف، قام في عام 2014بتقديم حلقات تلفزيونية على اليوتيوب بعنوان “قواعد العشق للمحبين[5″.

قام هذا البرنامج متفاعلاً في لحظة تاريخية غير مسبوقة شهدت اهتماماً شبابياً كبيراً بالتّصوف خصوصاً بعد الصدى الكبير الذي أحدثته رواية “قواعد العشق الأربعون” عندما نشرت أول ترجمة لها باللغة العربيّة في عام 2013بترجمة محمد درويش.

الملفت للنظر أن البرنامج تضمن غناءً لأشعار صوفيّة لمتصوفة قدماء في قمة الذوق الصوفي بأداء فنان شاب شعره طويل اسمه الفني “زجزاج[6]” وهو من اكتشاف الموسيقار المصري الكبير هاني شنودة. أغاني حلقات برنامج الشّيخ الشّاب محمد عوض المنقوشتغنى على أنغام موسيقى “جاز” من قبل “زجزاج” والنص المُغنى لأسماء صوفيّة قديمة من مثل سمنون المحب(المتوفى في بغداد سنة 298 هـ)، ابن الفارض(توفي سنة 632 هـ) جلال الدين الرومي(604هـ – 672هـ)، عبدالغني النابلسي( توفي عام 1050 هـ). اجتمع الماضي بالرّاهن، اجتمع التّقليدي بالحداثي، أنها أطروحة غير مسبوقة. أطروحة تسمح للشباب بالتواصل في الحداثة دون انقطاع عن القديم الإسلامي.  كل هذا جذب الجيل الجديد من الشباب نحو التّصوف.

 

خلاصة البحث

سعت هذه المقالة لفهم سر إنجذاب فئة علمانيّة من المجتمعات العربية بشكل عام والخليجيّة بشكل خاص نحو التّصوف. بتبيان أن هناك تبدلاً كونياً عاماً يسير بالبشريّة نحو البحث عن الروحانيّات في إطار ما يسمى “الاستيقاظ الكوني” بعد تراكم فشل التوجهات الماديّة الكونية والدينيّة الأخرى. هذه الإستيقاظات أخذت تتمدد في إطار ذو بعد محلي يسمح لها بخلق إستيقاظ روحي يناسب المحليّة العربية والخليجيّة من خلال محاور الشعر والرواية والتطور الرقمي وتبدل بنيّة العلاقة بين الشيخ وطالب العلم.

 

الدكتور محمدالزكري أنثروبولوجيبحرينينالدرجةالدكتوراهفي علم الثقافة الأنثربولوجية في المجتمعات الإسلامية (دراسة حالة شرق الجزيرة العربية) من جامعة إكستر البريطانية، معهد*  دراسات العرب والإسلاميات، 2005 بأطروحة عنوانها: “المداخلات الدينية بين الصوفيّة والسلفيّة في شرق الجزيرة العربية: موضوع الهويّة“.  يهتم الزكري بدراسة  أنثروبولوجيا المعرفة في المجتمعات الإسلامية وطرق إنتاج هويّاتها في الخليج العربي  بالإضافة الى دراسة الجماعات العربيّة/الإسلاميّة خصوصا المتصوفة ودراسة الأماكن المرتبطة بالمعارف خصوصاً المجالس والحلقات إضافة الى إهتمامه بشبكة الإتصالات بين الجماعات وهياكل التواصل بين الخليجيين وموضوعات التراث والاتصالات الثقافية من منظور أنثروبولوجي. من مـولفاته:  الزّكري، محمد (2014): “التنقيب في الثقافةمن خلال الأحلام: المكان، المعرفة والإتصال“، بون-ألمانيا: (لغة إنكليزية).  الزّكري، محمد (2004): ”مداخلات دينيّة بين المتصوّفة والسّلفيّة في شرق الجزيرة العربية: موضوع الهوّية“، إكستر: جامعة إكستر البريطانية (لغة إنكليزية).

للإطلاع على السيرة الذاتية الكاملة للدكتور الزكري يرجى نقر الرابط: https://www.dropbox.com/h

 

[1]للمزيد إطلع على:

Eickelman, D. (1992), “ Mass Higher Education and the Religious Imagination in Contemporary Arab Societies”, American Ethnologist, Vol. 19, no. 4.

[2] أنظر الرابط:

Eickelman, D. (1999), New Media in the Muslim World: The Emerging Public Sphere, Indiana-USA, Indiana University Press.

[3] السّماهيجي، حسين (2012): “توظيف التراث الصوفي في الشعر العربي الحديث“، البحرين: دار فراديس للنشر والتوزيع.

[4] ظاهرةالمسلمون الإفتراضيونعنوان لكتاب مهم يتحدث عن المجتمعات العربية الرقميّة من تأليف غاري آر – بانت وترجمة علاء الدين محمود ومن إصدار دار سطور الجديدة المصريّة في عام 2011. في عام 2017نشرت جريدة الحياة اللندنيّة معلومات نشرتها مؤسسة “مؤشر” عن الإعلام الرقمي أشارت الى أن السعوديّة إحدى أبرز الدول التي تغذي أخبار شبكات التواصل الاجتماعي في العالم وفي الشرق الأوسط بالتحديد، مؤكداً أن 70 في المئة من موادها تأتي من دول الخليج، مبيناً أن نسبة استخدام الإنترنت في السّعوديّة وصل إلى 70 في المئة، وتعدتها دولة الإمارات التي بلغت فيها النسبة 99 في المئة من إجمالي عدد السكان. للمزيد عد إلى الواصل التالي:

http://www.alhayat.com/article/872516/70-في-المئة-من-مواد-شبكات-التواصل-الاجتماعي-تأتي-من-دول-الخليج

[5] هذا البرنامج أعد من خلال “النهار نور” وهي قناة إجتماعيّة دينيّة تابعة لـشبكة تليفزيون النّهار. عدد حلقات “قواعد العشق للمحبين” أحد وثلاثون حلقة (31) وهذا الوصلة لأول حلقة منها:  https://www.youtube.com/watch?v=vgEDYYg_T6Q&list=PLlLuqtMQeaE4RtBMvR044WMACLpl5ZNRW

[6] للتعرف على المزيد حول المُغَنّي “زجزاج”، اقرأ “آخر عنقود فرقة المصريين.. الفنان الشاب زجزاج”: أغنى لإرضاء كل الأذواق والتعبير عن هموم الناس ومنحهم أمل في الحياة”. الرابط: http://www.rosaelyoussef.com/news/113515/أخر-عنقود-فرقة-المصريين-الفنان-الشاب-زجزاج-أغنى-لإرضاء-كل-الأذواق-والتعبير عن-هموم-الناس-ومنحهم-أمل-في-الحياة