حكومة مصلحة أم سنوات ضائعة أخرى؟

محافظات واقاليم العراق

حكومة مصلحة أم سنوات ضائعة أخرى؟

حملت الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت في 12 مايو/ آيار تغيرات في خريطة القوى السياسية العراقية الفائزة حيث سقطت وجوه معروفة في البرلمان، لكن دون ان يؤدي ذلك على ما يبدو الى تغيير كبير في تموضع القوى المؤثرة في العراق منذ العام 2003. يبقى المؤشر الأهم الذي لم يكن بالامكان أخفاؤه هو العزوف الذي أبداه الناخبون والذي من الواضح لعب الدور الأهم في تقرير الشكل النهائي لهذه الانتخابات.  المدونة دعت مجموعة من الخبراء والأكاديميين والكتاب العراقيين للكتابة عن هذه الانتخابات والمتغيرات التي حملتها فكان هذا الملف:

 

هشام الهاشمي

الانتخابات تجلب معها التغيير، ولكنها قد تجلب معها ايضاً نكسات وبلايا جديدة، وكل نكسة يمكنها أن تتحول إلى فرصة. فالمصائب والبلايا اثناء الحرب على داعش خلقت ايضاً ظهور فاعلين ومؤثرين جدد في العراق، وهيّأت لظهور خطاب وقوى جديدة سائرون والفتح والقرار وبيارق الخير. هذه الفرصة قد تمهد لصناعة ظروف جديدة لأنهاء نازلة الفساد.

وينبغي أن نستفيد من التغيير المتاح في الانتخابات، والقفز إلى الأمام على طريق التنمية الأقتصادية. اننا نعيش اليوم تحولات تشبه بحجمها وعمقها تلك التي كانت سائدة عام 2005. نأمل ألا يكون عام 2018 المقبل ايضاً «عاماً ضائعاً» من عمر العراق.

 

المبدأ الثابت لـ”سائرون” تكنوقراط مستقل

لن تعمل بهذا الثابت لأنه يعني حكومة بلا محاصصة ووزرات وهيئات بلا سيطرة وبدون لجان إقتصادية. أما بالنسبة لبعض القوائم التي تريد التغيير التدريجي فهي تطالب ب”تكنوقراط حزبي”، اذ ليس من العدل – من وجهة نظرها- ان يشترط تكنوقراط مستقل ويقوده رئيس مجلس وزراء حزبي. أما القوائم التي تريد أمريكا دعمها، فقد تم دفعها نحو معادلة بول بريمر وهي القسمة على المكونات العراقيّة، وهم يحققون المعادلة القائلة 57‎%‎  للشيعة 42% ‎ للسنة والكرد و‎%‎1 للاخرين، أي 187 مقعدا للديموغرافيا الشيعية و75 للسنة و58 للكرد و9 للأقليات.

وعلى ضوء الأرقام السابقة فإن دعم هذه القسمة لن يعكر مزاج إيران او حتى الدول السنية المجاورة للعراق، لكن مع معارضة “سائرون” يحتاج الأمر الى تفاهمات وشفاعات كبيرة بتعهد خليجي وايراني وتركي بشكل مباشر للصدر بالتصدي للفساد وتنفيذ مشاريع الإصلاح في حكومة الشراكة الوطنية القادمة، لكن هذا يعتبر تعهدا عملاقا.

علينا قبول الواقع، هناك ديموغرافيا اغلبية سنية تمتد من أطراف بغداد إلى جنوب اقليم كردستان وديموغرافيا اغلبية شيعية في 10 محافظات وديموغرافيا اغلبية كردية في 4 محافظات، وأن القيام بعزلها عن التمثيل الحكومي أمر غير مجد في وقت التعافي من معارك النصر على داعش، وأن الحل يكمن في قبول حكومة شراكة وطنية بتكنوقراط حزبي دون عزل اي مكون ومحاولة دعم قيادات أفضل والصدق في ملف مكافحة الفساد والملف الاقتصادي.

 

مفاوضات ومشاريع

مشروع قائمة “سائرون” قد يكون متفائلاً بوعود بعض زعامات القوائم الفائزة لأنها سوف تسهّل له تنفيذ برنامجه والتعاون على صناعة حكومة “تكنوقراط مستقلة” تبدأ من رئيس الوزراء وصولاً الى تصحيح المسار في كل مؤسسات الدولة العراقيّة، ويؤكد السيد مقتدى الصدر في تغريداته الأخيرة أن “لا حدود” لمشروعه التصحيحي والإصلاحي.

‏مشروع “الفتح” جعل إنقاذ العراق اقتصاديا هدفه السياسي الأول وتحقيق ما يسميه الشراكة السياسيّة، “حكومة الوفاق الوطني” وبدون فيتو على أي قائمة فائزة، ويعني بها إشراك الجميع في صناعة القرار وبحسب الأوزان الأنتخابية، والسيطرة على الخلافات الطائفية والقومية والحزبية باسم الشراكة.

‏مشروع القوائم السنية الفائزة “الوطنية”، “القرار”، قوائم الكربولي” هو في واقع الحال مشروع احيائي للبيت السياسي السني مرة اخرى، يكرّر ما كان يقوله “اتحاد القوى السنية” في الأزمة السياسية في السنوات الاربع الفائتة: “حكومة شراكة.. شراكة قرار .. شراكة صلاحيات”.

مشروع التحالف الكردي يستخدم مهارات التفاوض بعنوان سياسي صريح، ولا يحسم التفاوض إلا باتفاق إجباري يضمن تحقيق الحد الأعلى من امتيازاته، ولا يرغب بشراكة حكومية إلا بشركاء ضعفاء خاضعين لمنطق السوق “هات وخذ”.

‏مشروع “الحكمة” يشبه مشروع “سائرون” الا أنه يشترط “التكنوقراط الحزبي” ونقطة قوة مشروع “الحكمة” ليس عدد مقاعده ولا احترافهم السياسة ولا العمق الديني والتاريخي لآل الحكيم، بل تكمن قوته في ضعف إرادة القوائم الشيعيّة الكبيرة في أن تذهب الى المعارضة البرلمانية والحكومية.

‏ويراهن مشروع “دولة القانون” -وسيظل كذلك- على انهيار خصومه امام رغبة غالب الفائزين بالعيش في جلباب المحاصصة، أي الشيعة والسنة والكرد، فيمسخ طبيعة الصراع، وكأنه قتال ضد تهميش السنة والكرد والقوائم الصغيرة الفائزة.

أما مشروع “النصر” فيراهن على التحالف مع “سائرون” وعلى التذكير بنجاحات الدكتور العبادي الداخلية والخارجية، والتلويح بورقة الاصلاح الإقتصادي لتحقيق أهداف سياسية صريحة لا تقلّ عن منصب مجلس رئيس الوزراء، وإدارة التكنوقراط للوزارت بعيدا عن المواقف السياسية واللجان الإقتصادية.

لقاء بعد قطيعة بين قادة “الفتح” و”القانون” والحزبين الكرديين؛ اثبت لي أن النزاعات والصراعات السياسيّة مهما كانت عميقة بل حتى لو مست الثوابت والقيم الحزبيّة لا تظل دائما الا صراعات يطويها التاريخ وقد لا يرويها. وحتى النخب الثقافية والسلطوية الحزبية تعفو عن كثير وخطير ما حدث عندما يتعلق الموضوع بالمصلحة المشتركة وتقاسم السلطات، وهذا الصلح يجري في الوقت نفسه في المجتمع من عامة الانصار والاتباع وعليهم.

وأظن ان الحوار قد دار على تقبل طرفي الصراع الدخول والمشاركة بالحكومة العراقية القادمة لكن بشروط كردية يعتبروها شروطًا ضرورية تصحيحية لمسار ما حدث بعد تاريخ استفتاء اقليم  كردستان، وأن هذه الشروط بالنسبة للكرد تعتبر خياراً وجودياً وليس اعتبارياً تكميلياً، وهذه فرصة لهم من جهة وايضا لزعامة دولة القانون والفتح من جهة أخرى لتخفيف شروط سائرون والنصر عليهم.

 

ليبرو اسلامي

ظهرت في السنوات الثلاثة الأخيرة أطروحة تقارب اليمين الإسلامي المعتدل من الحركات الشيوعية والعلمانية والليبرالية واللاادرية؛ اطروحة جديدة تتعلق ببدايات الحراك الإسلامي المدني في تشاركية احتجاجية نهاية يوليو/ تموز عام 2015 في ساحة التحرير ببغداد وفي مناطق متعددة في البصرة والناصرية وبابل والنجف وكربلاء.

أن الصدمة التي أحدثها الفساد الحكومي والبرلماني للطبقة المتوسطة والفقيرة العراقية دفعت الجماهير الى الخروج الى تظاهرات عفوية انطلقت من البصرة بسبب أزمة الكهرباء وانتشرت بعد ذلك، وتوالت التظاهرات منذ ذلك الحين مركّزة على الفساد الحكومي والبرلماني بكل أشكاله.

ففي بغداد قامت تنسيقية بين التيار الصدري والحراك الشعبي المدني والتي بعثت روحًا جديداً في طرائق التنسيق والتكامل التنظيمي في انتخاب القضية المركزية وتوزيع الأدوار فيما بينهم.

في بغداد وبنفس التاريخ والمناسبة انبثقت تنسيقية احتجاجية اصلاحية مدنية لا ترى مسوغا من التقارب مع اليمين الإسلامي المعتدل، وهي تمتلك قيادة نخبوية مثقفة ولها خلفيات ثقافية متعددة، ولم تصمد طويلا بسبب الانشقاقات المتعددة بين اتجاهين، أحدهما يرى ضرورة الاستمرار لوحدهم، والآخر يرى لا جدوى من الأستمرار على اية حال.

وما عاد هناك شك اليوم بين المراقبين في الحركات السياسية الجديدة ان حركة “سائرون” هي نتاج لحركة احتجاجية احيائية “ليبرو اسلامية”.

لكن من المراقبين من يذهب الى ان تلك الحركة تفتقر الى الترابط التنظيمي والإتساق الفكري والخطاب الواعي. صحيح ان هناك قاسماً مشتركاً بين طرفي الخلطاء من حيث التوجهات والأهداف والاستراتيجيات، تمثل في الدعوة لتعزيز الثقة بالهوية الوطنية العراقية والإعتراف بالآخر ونبذ المحاصصة السياسيّة والذهاب الى ترميم مؤسسات الدّولة وصناعة تعويذة فاعلة لتعافي العراق من لعنة مخلفات بول بريمر وتنسب إليها كل النكسات والبلايا التي اصابت العِراق  ما بين 2003-2018 .

وهناك حركة “ليبرو اسلامية” ظلت خارج سياق اضواء الصحافة والباحثين، وهي قوائم اياد علاوي وشراكته مع الأخوان المسلمين والصوفية وقوائم الحزب الإسلامي منذ 2010-2018. لقد استطاعت هذه القوائم ان تنجز الكثير من مهام التعايش والمصالحة الوطنية وتخفيف الاحتقان الطائفي والقومي عدا فشلها في احتواء غضب الحراك السني ومنصات الاحتجاجات في نهاية 2012 ولغاية احتلال الفلوجة من داعش مطلع عام 2014.

ان ما ينبغي الانتهاء إليه في هذه العجالة هو أن قائمة سائرون ومثلها الوطنية والنصر والحكمة والقرار قد تشكل مدخلا

لـ”الليبرواسلامي” ولا ينبغي أن نهمل القوائم الإسلامية الأخرى مثل “الفتح” و”دولة القانون” التي اخذت تتحول في خطابها وبرنامجها نحو اليمين المعتدل.

ومع كل هذه المؤشرات المتفائلة بقيت المحاصصة وتقسيم السلطة والثروات حاسمة في صناعة السياسات الوطنية والتأثير فيها، وفي مستقبل الخطابات الليبرواسلامية الاصلاحية، ويمكن القول أننا سنشهد عام 2018 ظهوراً لرجالات الإصلاح العراقي على نمط جديد.

 

التفاهمات الاقليمية

إن اجتمعت القوائم الـ(5) الفائزة داخل البيت السياسي الشيعي فستكون قوة سياسية كبيرة، وإن الشفاعات الإيرانية الحالية فاشلة في احتواء الخصومة بين “سائرون” و”دولة القانون” ومواجهة تهديدات تشتت احزاب البيت السياسي الشيعي.

وعلى الأرجح، سيفشل الجهد في جذب “سائرون” و”النصر” معا، إن لم يُعدّل الوسيط الإيراني سياسته من خلال تقوية برنامج سائرون [تكنوقراط مستقل] بشكل كافٍ لتخفيف الخصومة والخلاف مع دولة القانون وازالة ما تبقى من اسباب الجدل.

إن قائمة “سائرون” قوة شعبية تنافس غيرها لكسب تأييد الفقراء والطبقة الوسطى، لذلك يجب العمل على أحتوائها وعدم دفعها او عزلها كقوة معارضة حيث تحوز بسبب هذا العزل على قوة شعبية معتبرة لن تسمح للحكومة او البرلمان بتنفيذ برامج حكومية مخالفة لمزاج جمهور “سائرون” وبالتالي تكون معارضة معطلة تعيش معها الحكومة ايام نكد واحتجاجات.

ومن الضروري أن تكسب السياسة الأمريكية ثقة قائمتي “الفتح” و”دولة القانون” وولاءهم كما القوائم الكردية من أجل الحفاظ على المصالح الأمريكية في العراق بدلا من الذهاب الى اصدار رسائل تجعل من قادة هذه القوائم اعداءً وعلى قوائم الارهاب، والتاريخ دون لنا فشل تلك القوائم غير الملزمة للقانون العراقي والأمثلة كثيرة.

وبالمقابل، تهدف السياسة الايرانية والتركية الحالية الى تقوية القوائم السنية (علاوي والمطلك والكربولي والجبوري والخنجر والنجيفي وابومازن وتميم والعبيدي) لاحتواء الأزمات وصنع ظروف التسوية السياسية والشراكة الوطنية العادلة مع الكرد والشيعة في المدى الطويل.

هذه الخطوات ينبغي أن لاتتجاهل ما نسجته السعوديّة والخليج من علاقات قوية مع “سائرون” و”النصر” وجزء من “الفتح” والقوائم السنية والكردية، وببقاء تلك العلاقات يستقر العراق اقتصاديا مع زيادة شعبية الحكومة القادمة عربياً.

وعلى ذلك يجب على التفاهمات الأمريكية والإيرانية والسعودية والتركية، احتواء كل القوائم الفاعلة والمؤثرة وعدم عزل اي واحدة منْهَا من أجل منع قيام جغرافيا متذمرة بسبب العزلة متأثرة بالحل المسلح والخروج على القانون.

 

 

 

 

هشام الهاشمي، باحث عراقي متخصص في شؤون الامن الفكري والحركات المتطرفة، متخصص في الجماعات الإرهابية وفروعها وتنظيم (داعش) وأنصاره في الشرق الأوسط. أهم مؤلفاته  “عالم داعش” و”تنظيم داعش من الداخل“. لمزيد من الاطلاع، زوروا صفحة الكاتب على فيسبوك: https://www.facebook.com/hisham.alhashimi.16.