الأرقام أداة للتفاوض بين الوجوه العتيقة في العملية السياسية

الصورة: العراق نت

الأرقام أداة للتفاوض بين الوجوه العتيقة في العملية السياسية

د. محمود عزو حمدو        

 مختلفة تماما، الأجواء السياسية والأمنية والإقتصادية، التي أجريت فيها انتخابات مجلس النواب العراق في أيار 2018، عما سبقتها، لقد كانت مرحلة تثبيت أقدام في الأرض التي شهدت حربا على تنظيم “داعش” في خمس محافظات عراقية، شارك فيها الى جانب القوات العراقية، الحشد الشعبي (أذرع عسكرية لقوى سياسية) والبيشمركة (قوات حرس إقليم كردستان العراق)، فضلا عن تطورات ما بعد الاستفتاء الذي أجري في اقليم كردستان في 25 سبتمبر/ايلول 2017، وما ترتب عليه من إعادة إنتشار/ إستعادة سيطرة القوات العراقية الاتحادية في المناطق المتنازع عليها. فما بعد داعش وما بعد الاستفتاء شكل بمجمله سمة للانتخابات العراقية الأخيرة، ولا شك انها ستنعكس أيضا على طبخة تشكيل الحكومة.

 

مقاطعة ناخبين وتشظي فائزين

تجربة الانتخابات الخامسة منذ عام 2003، سجلت تعكر مزاج الناخب العراقي باتجاه القوائم والائتلافات السياسية بنسبة مشاركة لم تتعدى 43% وهي تعد نسبة منخفضة مقارنة مع التجارب الاربعة السابقة ، اذ شهدت اخرها نسبة مشاركة وصلت الى 63%.

 وانعكست تلك المشاركة المنخفضة كذلك على توزيع اصوات الناخبين بين عدد من القوائم اكثر من السابق، اذ كانت اصوات الناخبين في التجارب السابقة تتركز باتجاه خمس او ست قوائم تستحوذ على 95% من نتائج التصويت. بيد أن هذه الانتخابات تمخضت عن فوز  أكثر من عشر قوائم سياسية بحوالي 80% من نتائج التصويت. وفازت اعلى كتلة (سائرون ) بنسبة 16.4% أي 54 مقعداً من مجموع مقاعد مجلس النواب (329). اذ تمخضت انتخابات 2014 عن فوز  اعلى قائمة  وهي ائتلاف “دولة القانون” ب 95 مقعداً اي ما نسبته 31%.

ويعود تفسير تشظي الفوز بالنتائج، ليس الى تعدد خيارات الناخب فحسب، بل الى الحكم الذي أصدرته المحكمة الاتحادية في 2010 في تفسير المادة ( 7/أ ) الخاصة بالكتلة النيابية الاكبر، اذ اقرت في حكمها بأنها ليست التي تفوز بأعلى الاصوات فحسب، بل التي تتشكل داخل قبة المجلس النيابي، وهو ما عزز من تفكك القوائم السياسية الشيعية والسنية والكردية وإعادة تجميعها بعد الانتخابات على شكل تحالفات جديدة للتفاوض بين المكونات السياسية لتثبيت حصصها من الحقائب الوزارية وبقية المناصب الاخرى، وهو أمر انعكس في هذه الانتخابات على دخول الكتل السياسية بتعدد القوائم داخل المكون الواحد .

 

“قانون البحار” لحساب الاصوات

ويبدو أن طريقة حساب الاصوات في العراق وفق “معادلة سانت ليغو 1.7” تشبه كثيرا قانون البحار (الأسماك الكبيرة تأكل الأسماك الصغيرة)، إذ تبتلع الكتل الكبيرة – بموجب هذا النظام – اصوات الكتل الصغيرة والتي لا تتمكن من الحصول على القاسم الانتخابي الذي يكون حصيلة هذه المعادلة مع الاصوات التي حصلت عليها القائمة.

لكن المؤشر الاساسي في نتائج هذه الانتخابات هو عدم حصول شخصيات بعينها على عدد كبير من الاصوات كما كان الامر في انتخابات 2010، اذ عبرت اربعة شخصيات عتبة المئة ألف صوت اما في انتخابات 2014 فشهدت تجاوز  شخصيتين عتبة المئة الف صوت، في حين تقلص العدد الى شخصية واحد فقط حصلت على اكثر 100 الف صوت في الانتخابات النيابية الاخيرة. لكن بقي مؤشر توجه الناخبين نحو شخصيات محددة موجوداً هذه الانتخابات.

الكاريزما ما زالت تجذب عدداً كبيراً من الناخبين، إذ حصل سبعة مرشحين على أصوات تتراوح تتراوح بين 50-100 ألف صوت لكل منهم، أربعة منهم في بغداد بينهم إمرأة واثنان في السليمانية وواحد في كل من نينوى وكركوك. بينما حصل 16 مرشحا بينهم امرأة على اصوات ما بين 25-50 الف صوت، اثنان في بغداد، وأربعة لكل من السليمانية ودهوك، واثنان في اربيل وكركوك وواحد في كل من ديالى وبابل والبصرة والانبار.

هذه المؤشرات تشير الى وجود مرشحين من عشرة محافظات فقط حصلوا على مجموع اصوات اكثر من 25 ألف، في حين خلت ثماني محافظات من اي مرشح تمكن من عبور هذا الحاجز منها سبع محافظات في مناطق وسط وجنوب العراق والاخرى هي شمال غرب العراق وهي صلاح الدين (تكريت). بينما محافظات اقليم كردستان العراق والعاصمة بغداد كان لها النسبة الاكبر من هذه الاعداد، اذ تحتل دهوك النسبة الأكبر مقارنة بعدد المقاعد المخصصة لها من بين 11 مقعداً فاز 4 بأكثر من 25 الف صوت، تليها السليمانية نسبة الى عدد المقاعد 18 فاز 6 مرشحين بعدد أصوات كبير، ومن ثم أربيل فاز مرشحان من مجموع 15 مقعد بأصوات كبيرة. لتأتي بغداد ويفوز فيها 6 مرشحين بمجموع اصوات تجاوزت 25 الف نسبة الى مقاعدها الواحد والسبعين (71)، بينما فاز ثلاثة مرشحين فيها اجتازوا هذا العتبة بالرغم من أنهم من محافظات اخرى الاول نوري المالكي من كربلاء حصل 102 الف صوت والثاني هادي العامري حصل على 63 الف صوت وهو من ديالى والثالث عبد الحسين عبطان وحصل على 34 الف صوت وهو من النجف.

اذن مجموع المرشحين الفائزين المتصدرين يبلغ 24 من مجموع 329 مرشحاً فائزاً، تلك المؤشرات تدل على ان مزاج الناخب العراقي كان في مناطق بعينها يدعم شخصيات محددة اما في مناطق اخرى فالمؤشرات تشير الى توجه الناخبين الى دعم اكبر عدد من المرشحين لذلك لم تظهر مؤشرات بوجود مرشحين تمكنوا من عبور حاجز 25 الف صوت.

 

أداء سياسي مكبل برؤوس العملية السياسية

طبيعة النظام الانتخابي ينعكس في مرحلة حصد النتائج على أداء البرلمان العراقي الذي يعاني من ضعف فاعليته، فلا يشترط وجود عتبة تصويت للمرشح الفائز كما ان نظام القوائم الانتخابية هو الطاغي بسبب صعوبة وصول المرشح المستقل الى عتبة الأصوات (وهذا يحيلنا مرة أخرى الى قانون سانت ليغو المعتمد) مما جعل الأداء السياسي للنواب خاضعاً لقادة الكتل السياسية الرئيسة، فضلاً عن أن النسبة الاكبر من النواب حصلوا على عدد اصوات قليل جدا لاسيما ان مؤشرات النتائج تشير الى عدم عبور 305 مرشح فائز عتبة 25 ألف صوت، ما سينعكس على طبيعة التحالفات القادمة لتوزيع الحقائب الوزراية والاتفاق على الرئاسات الثلاث.

بالنهاية لن يكون لأغلب النواب رأي مؤثر في الاتفاقات التي تعقد لتشكيل الحكومة، وسيكون على الغالبية التصويت بما تمليه عليهم قائمتهم. يضاف اليها خضوع مجلس النواب للمشكلات التي تحدث بين الكتل السياسية وانسحابها على ادائه في واجباته الاساسية في التشريع والمراقبة.

من هنا فان الحل الاساسي يتمثل في تقسيم المحافظات الى دوائر انتخابية عدة على اساس عدد الناخبين، أي من يحق لهم التصويت في تلك الدائرة واللجوء الى الانتخاب الفردي بدل الانتخاب المزدوج القائمة والفردي.

 واية قراءة لمستقبل المشهد الانتخابي العراقي لابد وان تشير الى ان نسبة التغيير التي حصلت تمثلت بتجديد الثقة في 92 نائباً من الدورة البرلمانية السابقة وفوز مرشحين للمرة الاولى بلغ عددهم 238 نائبا جديداً أي أن ما نسبته 72% من النواب السابقين لم ينجحوا. بيد أن الامر لا يمكن التعويل عليه اذ ان مالكي مفاتيح القرار السياسي قد لايكونوا ضمن التشكيلة النيابية او الحكومية بل هم قادة كتل واحزاب منهم من يتمتع برمزية دينية واخرون برمزية قومية. لذلك فان الأداء البرلماني والسياسي يعكس من جهة لغة الارقام ولكن الوقائع تعكس فعلاً سياسياً يجعل من هذه الارقام أداة للتفاوض بين الوجوه العتيقة في العملية السياسية.

 

 

 

محمود عزو حمدو،  استاذ جامعي  متخصص في الفكر السياسي المعاصر بكلية العلوم السياسية بجامعة الموصل وينشر مقالاته في شبكة النبأ المعلوماتية. اهتماماته البحثية تشمل موضوعات التعايش في الموصل، بناء السلام بعد النزاع، مواجهة التطرف وخطاب الكراهية، الانتخابات والتداول السلمي للسلطة في العراق. يمكنكم متابعة الدكتور حمدو على فيسبوك: https://www.facebook.com/thepoliticianman