دخان التعمية للتستر على القاتل

Credit: Gulf News

دخان التعمية للتستر على القاتل

استدراك ضروري: لقد توفي القيادي الفلسطيني هاني الحسن عام 2012 وهذه حقيقة تطرح سؤالا يتصل بصميم المعايير المهنية والأخلاقية في الصحافة الغربية وخصوصا في مجلة “فورين بوليسي” عندما تنشر مقالا  في 2013 يتضمن تصريحات منسوبة لشخص متوفٍ لا يستطيع الرد ولا التوضيح”…

 

محمد فاضل العبيدلي

في السادس من هذا الشهر، نوفمبر 2013، اعلن فريق من الاطباء السويسريين الذين قاموا بفحص عينات من جثة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات انهم وجدوا جرعات عالية من مادة “البولونيوم 210” في جسده.

وفي رد فعل سريع، نشر موقع مجلة “فورين بوليسي” في 8 نوفمبر مقالاً للكاتب مايكل بيري، عرض فيه ما اسماه محادثة مع هاني الحسن -أحد المسؤولين المخضرمين في منظمة التحرير الفلسطينية ومساعد مقرب لعرفات لعقود- جرت في صيف 2007 في العاصمة الاردنية عمان. في المقال، يطرح بيري فرضيات حول الفاعل الحقيقي لتسميم عرفات بتلك المادة المشعة المميتة والتي وردت في المقال على شكل اسئلة طرحها على الحسن لمعرفة رأيه فيمن يحتمل ان يكون الفاعل وأجوبة هاني الحسن. وحسب الكاتب فان لائحة المتهمين تشمل “مجموعة من مساعدي عرفات المقربين” و”الموساد الاسرائيلي” و”مجموعة من النشطاء السوريين ارسلهم النظام في دمشق” واخيرا وليس آخرا “وكالة المخابرات المركزية الامريكية”.

وفي ردوده، اجاب الحسن (حسب الكاتب) حول احتمال تورط مساعدي عرفات “طبعاً” مضيفاً “لقد فعلوها وفعلوا المستحيل لجعل الأمر سراً”. أما حول احتمال تورط الموساد فقد أورد الكاتب جوابا على لسان الحسن نصه “الاسرائيليون أرادوه حياً لكي يكون ذريعة لعدم عقد اتفاق معنا”. اما حول تورط السورين فأجاب (حسب الكاتب طبعا): “الإبن ليس مثل الأب” مضيفاً “كما أن حافظ لا يمكنه العمل من القبر”. واخيرا حول تورط المخابرات الامريكية فان الجواب كان: “كان ذلك سيكون في الصفحة الاولى لصحيفة واشنطن بوست[1]“.

إن قراءة المقال تقود الى استنتاج وحيد: “الاسرائيليين ليسوا هم الفاعلين”، أما التبريرات فقد اوردها الكاتب على لسان قيادي فلسطيني بوزن هاني الحسن. هل هذا ما يريد منا الكاتب أن نصدقه؟

حسنا، لقد مرت 9 سنوات [وقت نشر المقال] منذ ان رحل عزفات في 11 نوفمبر 2004 ولم تتزحزح المفاوضات بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية بوصة واحدة، إن كان علينا أن نصدق انه كان العقبة الوحيدة أو الرئيسية امام اي اتفاق او تسوية.

وبينما تفرض شروط البحث ومعاييره النظر في جميع الاحتمالات والفرضيات وتقليبها خصوصاً مع حدث كبير مثل هذا، فمن الواضح ان الكاتب نسي أهم الأجوبة وأكثرها حسماً حول سؤاله وبحثه عن القاتل المحتمل لعرفات. إن واحداً من أكثر الاجوبة الحاسمة وأكثرها وضوحاً جاء من الكاتب البريطاني المتخصص في تاريخ الموساد الاسرائيلي غوردن توماس في كتابه “جواسيس جدعون – جواسيس في الرمال” الذي صدر للمرة الأولى عام 2001 وقام توماس بإصدار طبعة محدثة منه في عام 2008 وكرس فصلا كاملا عن اغتيال عرفات.

لقد شرح توماس في ذلك الفصل من الطبعة المحدثة من الكتاب، كيف قام الموساد بتسميم عرفات عندما عرفوا واحداً من أطباقه المفضلة وهو حساء يصنع من عشبة تنمو في فلسطين وتوصلوا الى تاجر فلسطيني من عرب 1948 كان يزود مقر عرفات (المقاطعة) بهذه العشبة فقاموا بتسميم شحنة مرسلة الى المقاطعة.

عندما إنتهيت من قراءة مقال مايكل بيري قفز في ذهني سؤال: لماذا يفوت كاتب مثله قراءة كتاب ذو صلة وثيقة بموضوع مقاله أو بحثه متوفر في السوق منذ العام 2008 ليأتي في العام 2013 ويكتب مقالاً مبنياً على ما يزعمه انها محادثة جرت في 2007 ولا يقدم سوى جواب ضمني واحد: “الاسرائيليون ليسوا من قتل عرفات”.

لم يكن بيري هو الوحيد الذي تجاهل كتاب غوردن توماس وروايته حول التورط الاسرائيلي في إغتيال عرفات. ففي 7 نوفمبر كتب ديفيد بلير في تعليق له في صحيفة  “ديلي تليغراف” البريطانية أن “عرفات أثار سخط الغرب والعرب على حد سواء وبالتأكيد كان هناك من يود قتله من أعدائه العرب بالإضافة الى أنه تقدم في العمر وصحته تدهورت وهذه كلها من شأنها أن تكون سبباً في وفاته[2]“. من جديد نحن أمام الرسالة الضمنية نفسها: “الاسرائيليون ليسوا من قتل عرفات”. لكن سطوراُ معدودة في تعليق بلير تبدو مثل الزلة الفرويدية عندما أشار الى وفاة وديع حداد أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العام 1978 وهو في الثامنة والاربعين من العمر بواسطة شيكولاته بلجيكية أرسلت له، ألا يدق هذا ناقوساً؟ الخيط هنا هو “التسميم عن طريق الطعام”.

كلا من بيري وبلير لم يتطرق الى العنصر الأهم والمستجد في قضية موت عرفات وهو الدليل الحاسم المتمثل في مادة “البولونيوم 210″، وهي سم ليس له سوى مصدرين، إما من الطبيعة أو من مفاعل نووي حسب ما أعلنه العلماء.

لقد تساءل توماس في كتابه: “هل أقدم مائير داغان (رئيس الموساد) على ما رفضه أسلافه من قبل وأجاز عملية متهورة لإغتيال ياسر عرفات؟” وختم الفصل الذي كرسه لإغتيال عرفات مقتطفاً ما قاله مائير داغان لأحد مساعديه حول موت عرفات: “المأساة الوحيدة في موت عرفات انه لم يحدث مبكراً لأنه رفض التخلي عن البندقية”.

ردود الفعل السريعة مثل هذا النوع من المقالات التي تروج لجواب ضمني يبرئ اسرائيل من أي شبهة في موت عرفات ليست سوى اثارة دخان للتعمية، لكن كتابها ومن دون قصد لا يفعلون سوى أن يشيروا الى القاتل الحقيقي.

 

 

 

 

رابط المقال الاصلي بالانجليزية: https://gulfnews.com/opinion/op-eds/arafat-death-blinding-smoke-of-the-murderer-1.1257111

[1] إقرأ: مايكل بيري “Martyr Unmartyred”، موقع فورن بوليسي على الانترنت عبر هذا الرابط:
http://www.foreignpolicy.com/articles/2013/11/08/a_martyr_unmartyred_yasser_arafat_last_days?page=0,0&wp_login_redirect=0).
[2] راجع: Con Coughlin: “” If Yasser Arafat was poisoned with polonium-210, there’s a long list of suspects. الرابط:
http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/palestinianauthority/10432986/If-Yasser-Arafat-was-poisoned-with-polonium-210-theres-a-long-list-of-suspects.html