“كـانَ” وأختهـا “الآنَ”

“كـانَ” وأختهـا “الآنَ”

 

“إلى أساتذتي ومعلميّ الأفاضل”…

 

في تلك السنوات التي كان الدخول إلى المدرسة لا يتطلب أكثر من أن يمد الصغار أياديهم لتصل إلى أذنهم، كان عبدالله ملك يقف كل صباح أمام الطابور ليقدم عرضاً في التمثيل لدقائق معدودة.

آنذاك، كان المعلمون والمعلمات في كل المدارس يؤسسون جمعيات للأنشطة. لقد حولت جمعيات العلوم والجغرافيا والتاريخ والمسرح والموسيقى والفرق الرياضية، أروقة تلك المدارس إلى ما يشبه المجمع العلمي الصغير. أعطت معنى ثرياً لكلمة “المدرسة”.

كان تلاميذ الابتدائي يكتسبون مهارات ومعارف جديدة إضافية لما يتلقونه من المناهج. في جمعيات العلوم، كانوا يتعلمون فن ”التحنيط” وحمداً لله أن ”غرين بيس–Green peace” لم تظهر في تلك الأيام، لأنني أعتقد أننا ساهمنا في نقص عدد النوارس التي تحولت على أيدينا إلى مومياوات مضاءة بالألوان. أبعد من هذا، كانوا يلتقطون الكائنات الصغيرة، فراشات وكائنات من البحر ويقدم المعلمون تمارين بسيطة في التشريح وتدوين الملاحظات العلمية فيما يشبه المختبر. يتعرفون على العالم وتاريخه من جمعيات الجغرافيا والتاريخ. أما هواة المسرح فقد كانوا يتلقون المبادئ الأولى في فن الأداء والتحكم في طبقة الصوت وتلوين الإلقاء. من هناك، عرف عبدالله ملك ميوله واكتشف قدراته، وعندما أكمل الثانوية كان اختيار الدراسة الجامعية قراراً محسوماً. درس المسرح وأصبح واحداً من فنانين ومخرجين بحرينيين نفخر بهم.

أوردت عبدالله ملك مثالاً لأنني عايشته، لكن مثاله شاخص ومعمم في كل البحرين في ذلك الوقت لا للفنانين فحسب، بل للمئات من الكفاءات في ميادين شتى ممن تلقوا تعليمهم في مدارس تلك الأيام. فتلك المبادرات الخلاقة كانت نسخة مبكرة لما سنعرفه بعد عقود باسم ”ويكيبيديا”.

تلك المدارس، لم تكن جزراً معزولة، بل كانت تجمعها المسابقات الرياضية في كل الألعاب (تعزيز روح التنافس الخلاق) ومن هناك كان مكتشفو المواهب يجدون ضالتهم في الموهوبين من لاعبي المدارس.

ولكم أن تعرفوا أيضاً، أن نائب سفير فلسطين السابق في البحرين عبدالرحمن الصوير، كان يشرف على هواة الصحافة في مدرسة المنامة الثانوية، ومن هناك تتلمذ على يده اثنان: إبراهيم بشمي الذي دخل كلية الآداب قسم الصحافة بجامعة القاهرة، والمرحوم حسن النعيمي، أفضل مخرج وسكرتير تحرير عرفته الصحافة البحرينية.

ماذا يفعل طلاب المدارس اليوم غير تلقي الدروس؟ لا مسرح.. لا موسيقى.. لا جمعيات علمية.. لا نشاطات (اللهم الوسائل للصغار وأبحاث منقولة قصاً ولزقاً للكبار).. لا منافسات رياضية أو علمية أو فنية بين المدارس.. أي المقابل الآخر لمفردة ”الكآبة”.

إذا كانت الفنون والأنشطة العلمية والرياضة، أدوات تعليمية وتربوية، فإن المقارنة مع واقع المدارس اليوم ستكشف المفارقة الكبرى التي تحكم التعليم لدينا في العقود الأخيرة.

فعلى الرغم من تطور المناهج، فإن الشكوى ما تزال قائمة من مستوى مخرجات التعليم. فالتعليم لن يكون مجدياً ما لم يكتسب الطلاب القدرات والمهارات الذهنية العالية والتفكير العقلاني بل حتى حسن التصرف والثقة بالنفس، التي بقينا نردد منذ عقود أن الخريجين يفتقدونها. فالفارق جلي وواضح بين ما اكتسبه أجدادهم وآباؤهم، وبين ما يمكن أن يكتسبوه الآن على مدى 12 عاماً في المدرسة. فذلك الجيل الذي تعلم في مدارس محدودة الإمكانات، اكتسب معارف ومهارات إضافية وعززت تلك النشاطات فيه روح التنافس والسعي نحو التجويد والتفوق، وأكسبته الانضباط والثقة بالنفس. والأهم أنها كانت تشكل الفضاء والمختبر لكي يكتشف الطلاب ميولهم وقدراتهم في وقت مبكر.

اليوم، لا شيء من هذا كله إلا ما تيسر، فهذه الأدوات التربوية تركت لإدارات المدارس. أي أنها تركت للاجتهاد والموازنات التي تشكو دوما، فلم تعد ضرورات تربوية بل أقرب للترف.

الحال ليس أفضل في الجامعات، فلدينا نحو 12 جامعة لا نعرف عنها سوى الرسوم الباهظة، ومخالفات رصدها مجلس التعليم العالي. وإن بادرت بشيء، فليس أكثر من يوم ترفيهي مدفوع الأجر يقوم فيه الطلاب بتلوين وجوههم بالأصباغ كالمهرجين ووشمها بـ”التاتو”. ولربما أحضروا حصان “بوني” لكي يركبه الصغار من العائلات الحاضرة وكأنه تجسيد حي للعلاقة بين البيت والجامعة.

لا مسرح في الجامعات (عدا جامعة البحرين).. لا منافسات رياضية بين الجامعات، لا مسابقات علمية أو فنية، وتعالوا بعد هذا لنتساءل: لماذا يتلعثم أبناؤنا ويصابون بالتأتأة في مقابلات العمل؟ ولماذا تتملكهم قناعة راسخة بأن أبواب العمل ستفتح أمامهم بمجرد الحصول على ورقة تقول إنهم اجتازوا عدداً معلوماً من الساعات الدراسية؟

وتعالوا لنشكو من ضعف مخرجات التعليم، ومن أن أبناءنا يفتقدون للمهارات الذهنية العالية والروح التنافسية وأخلاق العمل. وتعالوا لنقرأ في صحافة تعمل بلا ذاكرة وبلا قدرة على التحليل ومنذ عقود موضوعات من هذا النوع: ”الشباب والفراغ”، ”الشباب الحائر”، ”الشيشه.. خطر يواجه الشباب”. ألم تتساءلوا لماذا تقدم الصحف المبرزين من الشباب دوماً وكأنهم أعجوبة؟ ببساطة لأنهم نادرون.

أمر أخير يجلو المفارقة: لقد كان معلمو تلك الأيام يقومون بكل تلك النشاطات خارج أوقات الدوام، تطوعاً من دون أجر.. أي المقابل لمفردات أصبحت نادرة: ”التضحيات”، ”الجدية”، ”العطاء”.. ”المحبة”.

 

التعليقات

 

تعليق #1

 

الأستاذ الفاضل “محمد فاضل” ان مخرجات التعليم ظاهرة وباهرة لأنها تتجلى في زيادة الثقة بالنفس لدى الأسيوي في “محلات البحوث”،وفي حفظ الأمهات لجميع المقررات الدراسية !

 

سلطان محمد الأحد 21 فبراير 2010

 

تعليق #2

 

نعم يا استاذ محمد الوضع كان مختلف جداً كان النشاط المدرسي يستمر إلى مابعد الدوام الرسمي والمدرس يقوم بذلك بكل سرور والمواهب تتفتح في جميع الجوانب الفنية والعلمية ، الوضع الحالي مزري لا اهتمام في الجوانب الفنية لذلك تجد الطالب غير متزن الشخصية ولا نجد مواهب جديدة في جميع المجالات الفنية ترفد الساحة الفنية سواء في المسرح او التشكيل .

 

كرم الأحد 21 فبراير 2010

 

تعليق #3

كم كان بودي أن تكون مقالاتك متقاربة زمنيا اخي الكاتب فليس من المعقول وانتم في هذا النضج الثقافي ان تأتوا الينا بهذا النوع من الطرح الجيد كل ستة شهور او اكثر اما ذكرك لموضوع كان واحد اخواتها فهو طرح جيد قد استخدمت فيه جميع اخوات كان ولكن بشكل غير مباشر تحياتي لك اخي الفاضل ونتمنى منك مواصلة الكتابة في هكذا نوع من المواضيع

 

أحمد عبدالعزيز الأحد 21 فبراير 2010

 

تعليق #4

مع الاسف في تلك الايام كنا نعيش على هذه الارض مواطنين ابناء هذه الارض فقط اما الآن فبين ظهرانينا مجنسين لا ينطقون العربية ويحسبون انفسهم ابناء هذا الوطن فليس لدينا الآن الا ان نجتر ذكرياتنا ونترحم عليها

 

الى متى الأحد 21 فبراير 2010

 

تعليق #5

شكرا للاخوة المعلقين والمتداخلين..

توضيح بسيط للاخ احمد عبدالعزيز.. اشكرك عزيزي على تعليقلك لكنني الفت عنايتك الى ان “الان” ليست من اخوات “كان”.. بل هي ظرف زمان.. استخدامها في العنوان باعتبارها اخت “كان” يأتي من باب ما يسميه اللغويون “التضاد”.. اي صيغة اخرى للقول كنا واصبحنا مثلا او الماضي والحاضر..

اردت التوضيح فقط من باب الحرص على لغتنا العربية..

اجدد شكري الجزيل لك على تعليقتك وتفاعلك ولبقية الاخوة حتى الذين يختلفون معي في الرأي..

 

محمد فاضل الأحد 21 فبراير 2010

 

تعليق #6

 

الأخ محمد فاضل..

تحية طيبة..

لم أشأالتعليق..لكن توضيحك اللغوي بخصوص كان والان..شدني وإجتذبني لأحييك..والحق..على كثرة متابعتي لما يكتب لمأقرأ لأي كاتب أنه قام بتوضيح لغوي او نحوي ..لست متخصصا بلغة”الضاد”الجميلة لكني أعشقها حد الهيام..فياليت كتابنا يسعون سعيك ويحذون حذوك في المساهمة بالحفاظ على لغتنا الجميلة التي شوهت محياهافضائياتناوبعض “المخربشين”!…مقالك رائع،يدلنا على ضعف همتنا بالعمل وإنكماش روح الأبداع،فقد سادالأنا وتمددت مساحات التصحر المتمثلة بالمصلحة الخاصة وإنحسرت الربوع الخضراء المتمثلة بالأبداع على إمتداد مساحة بلاد العرب”أوطاني” ودمت بود