مزيد من الديموقراطية في انتظار إعلان مملكة البحرين

محمدفاضل

ما يغيب عن الأذهان، هو ان التحول الى الملكية الدستورية يمثل التحول التاريخي الأهم لتحقيق استقرار سياسي يحسم وفي شكل نهائي أي تردد حيال شكل النظام السياسي في البحرين وجملة من الأوضاع والمفاهيم المعلقة.

قبل شهرين، كنت طرفاً في نقاش حول موعد إعلان الملكية وكنت أرى أن هذا التحول لا يمكن ان يكتسب قيمته ومدلولاته التاريخية إلا عندما يعلن من على منبر البرلمان. وما كان تخميناً ورأياً بالأمس، غدا اليوم وعداً والتزاماً من الأمير عندما أعلن غداة إعلان نتائج الاستفتاء على الميثاق في السادس عشر من شباط/ فبراير بأن إعلان الملكية لن يتم إلا بعد تحقيق وعد الديموقراطية.

والى ما يحمله هذا الوعد من دوافع وفاء لدى الشيخ حمد، فانه في معناه الأهم يمثل ربطاً محكماً وواعياً ما بين العنصرين الأساسيين لجوهر الملكية الدستورية: الوحدة في ظل الولاء النهائي للعرش والديموقراطية أداة للحكم. ان الربط بين موعد التحول للملكية وموعد تحقيق الديموقراطية ليس مسألة توافق زمني فحسب، بل هو التمثل الموضوعي لجوهر الملكية الدستورية وجوهر النظام السياسي المقبل في البحرين.

فهذا الربط لا يفعل سوى ان يتمثل جوهر الملكية الدستورية عبر تفعيل الارتباط العضوي غير القابل للفصم بين عنصري الملكية الدستورية كنظام سياسي. فالملكية هنا لا تستقيم من دون دستوريتها، ودستوريتها لن تصبح ذات معنى من دون ولائها النهائي للعرش. والربط جاء ايضاً ضمن الحال البحرينية لكي يحقق ويوفر عنصر الاستمرارية في النظام السياسي والحياة السياسية، أي أهم مقومات الاستقرار السياسي. هنا، يمكن النظر الى نظام المجلسين الوارد في ميثاق العمل الوطني كأحد الأدوات العملية لتحقيق الاستمرارية والاستقرار في الحياة السياسية المرتقبة في البحرين.

فالمجلس المعين أي الغرفة الثانية في البرلمان، جاء لكي يحدث توازناً مطلوباً بين المجلس التشريعي المنتخب والحكومة ولكي “يعقلن” العلاقة اكثر بينهما. ان هذا المجلس لا يتمتع بصلاحيات تشريعية، لكن دوره يبقى مهماً كعنصر توازن يمنع الاندفاع نحو أي مواجهة محتملة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. ففي مثل هذه الحالات ثمة خيارين، إما ان تستقيل الحكومة واما أن يحل الأمير المجلس التشريعي. وكان واضحاً منذ البداية ان الأمير لا يريد ان يكون في يوم أمام هذين الخيارين حرصاً على استمرار التجربة ووقايتها من أية عثرات تحقيقاً للاستقرار في الحياة السياسية.

وفي سياقه التاريخي، فان هذا التحول يمثل الثمرة التي تختزل تاريخاً طويلاً من الطموحات الوطنية والأمنيات والتضحيات التي صنعت تاريخ البلاد، ولست أبالغ ان قلت انه التحول الأهم في تاريخ البحرين منذ القرن السابع عشر.

لن يكون بمقدورنا الاحاطة بأهمية وقيمة التحول نحو الملكية الدستورية ما لم تستوقفنا أولاً النتائج المباشرة للتحولات الجارية في البحرين ومحاولة فهم مدلولاتها وتأثيرها المستقبلي على الأوضاع في البحرين وعلى شكل ونوع النظام السياسي الذي نحن بصدده.

بداية، ومع خطوات المصالحة الشاملة التي قادها الأمير الشيخ حمد، فان التحول الأهم جاء في موقف المعارضة بكل أطيافها في الداخل والخارج. فالاجماع الذي أعلنته هذه المعارضة حيال برنامج الأمير ممثلاً في الميثاق الوطني، يعني بالدرجة الأولى نهاية “للعقلية الانقلابية” التي طبعت تفكير القوى السياسية في البحرين منذ عقود الصراع مع المستعمر الأجنبي وحتى وقت قريب.

والقيمة الحقيقية لهذا التحول، تكمن في ارتباطه المباشر من الجهة الأخرى بحياة سياسية ديموقراطية وأجواء حريات في ظل الملكية الدستورية. فوجود الملكية الدستورية واستقرار الحياة السياسية القائمة على المشاركة الشعبية والديموقراطية المستقرة، كفيلة بالقضاء نهائياً على أي ميل أو نزعة انقلابية في المجتمع. على هذا يمكن النظر بتقدير عال للرغبة في خلق أدوات وآليات تضمن استمرار الحياة السياسية والمؤسسات الدستورية واستقرارها من دون توقف أو عثرات، فهذه تبقى الضمان الأهم لتكريس هذا التحول في ذهنية القوى السياسية وفي الثقافة والوعي العام في المجتمع. ربما أننا نتحدث عن حسن نية متبادلة هنا، وهذا ان كان يقترح علينا شيئاً، فهو يدعونا للبناء على الحقائق السائدة الآن في البحرين كنتيجة مباشرة لهذه التحولات التاريخية.

ثانياً، التحول للملكية الدستورية ينزع وفي شكل نهائي كل عوامل التأزيم التي ظلت تنشط تاريخياً في فترات متفاوتة من تاريخ البحرين منذ القرنين الماضيين سواء بتأثيرات خارجية او نتيجة لمصاعب داخلية. واذا اتفقنا ان استفتاء الأمم المتحدة على استقلال البحرين في العام 1970، كان مبايعة للشرعية السياسية في البلد ممثلة في الأمير الراحل المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، فان الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني يكتسب المعاني والمدلولات نفسها لعهد الشيخ حمد، عدا ان التحول للملكية الدستورية يضع مسألة الشرعية السياسية ويقننها دستورياً وتاريخياً على نحو نهائي يقضي على أي إمكان لنشاط عوامل التأزيم من جديد. عوامل التأزيم التي لا تفعل سوى ان تغذي الميول والنزعات الانقلابية في المجتمع.

مرة أخرى، فان التعويل سيبقى على استقرار الحياة السياسية والارتباط غير القابل للفصم ما بين عنصري الملكية الدستورية: الوحدة في ظل الولاء النهائي للعرش والديموقراطية كأداة للحكم. فالولاء النهائي هو الحصانة ضد أي محاولات اختراق خارجي وهذا لن يكتسب معناه وفاعليته من دون استمرار الحياة الديموقراطية المستقرة كأداة للحكم والإدارة.

ثالثاً، بانجاز التحول للملكية الدستورية، يكون الشعب والحكم قد صنعا القاعدة الأساسية والآليات والقوانين لتطور سياســي مستقبلي شامل. وامتلاك هذه القاعدة وآلياتها وقوانينها لا يفعل سوى ان يوفر لنا القدرة على ممارسة التطور فـي شكل مستمر ومتواتر ضمن مناخ صحي وعافية سياسية. من جديد أعيد التأكيد على ان التاريـخ يمثل منطلقاً أساسياً في برنامج الشيخ حمد ومقاربته في الحكم، استلهاماً واستشرافاً. وبإنجازنا للتحول نحو الملكية الدستورية، فان التاريخ الذي يتوجب علينا استشرافه الآن لن يكون سوى ولوج مرحلة تطور متدرج وعقلاني على نحو شامل بعد توافر قاعدته وآلياته وقوانينه. نحتاج للنظرة بعيدة المدى كي نفهم ان الاستبشار بعودة الحياة البرلمانية سيكون قاصراً ما لم ينطلق من إدراكنا ان هذه الحياة البرلمانية هي أداتنا لاحداث تطور مستقبلي مستمر ومتواتر على جميع الأصعدة وعلى رأسها نظامنا السياسي نفسه. فالتلازم ما بين عنصري الملكية الدستورية أي الوحدة والديموقراطية سيبقى عنصر الدفع الأول لعملية التطور ومنبعها الأصلي وليس علينا هنا سوى ان ننشط خيالنا قليلاً لكي نتصور الآفاق والمدى الذي يمكن ان نذهب إليه في عملية التطوير الشامل. ان هذا لا يعني سوى ان “التطور المستمر” هو القانون الذي سيحكم عملنا في المستقبل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. أي ان حركتنا ستبقى متصاعدة بتوأده وترفق لتطوير نظامنا السياسي، وكل شيء سيبقى ممكناً ومطروحاً في جدول الأعمال وصولاً الى الصيغ المثلى للملكية الدستورية.

ان هذا التطور قد يستغرق جيلين أو ثلاثة، لكن إدراك هذه المهمة وفهمها جيداً والحفاظ على صيرورتها وآلياتها يبقى هو المهم، فليس للتطور المتدرج أي معنى ما لم يكن نابعاً من فهم صحيح للعلاقة مع الزمن. فالإيمان بامتلاك وسيلة التطور أهم من الرغبة في إحداث التطور في غير وقته. هذه هي معادلة التدرج والتطور العقلاني.

لن أسرف في التفاؤل لأنني أدرك ان المهمة ليست سهلة والنوايا الحسنة لا تكفي، على هذا يبقى الجزء الأهم من مهمتنا المستقبلية، انجاز الشق الآخر من التحول. لقد أنجزنا صنع الأدوات والآليات، أما الشق الآخر فهو الأهم والأصعب في الوقت نفسه، إنها الذهنية والثقافة العامة المتوارثة.

علينا الآن ان نشرع فوراً في عملية “دمقرطة” شاملة تبدأ من البيت والمناهج المدرسية وأساليب التربية وصولاً الى المؤسسات. إنني هنا لا أدعو لتدريس الصغار فضائل الديموقراطية وثقافة حقوق الإنسان وامتحانهم فيها على الورق، بل لتربيتهم على أساسها وتدريبهم على فهمها وممارستها. هكذا أبدأ بديموقراطية التعليم وصولاً الى دمقرطة المجتمع في شكل أشمل. هذه ليست مهمة الحكومة فحسب، بل ان النخب المثقفة والقوى السياسية تتحمل نصيبها من هذه المهمة. فمثلما ان قانون أمن الدولة لا يستقيم مع الديموقراطية والحياة النيابية، فان هذه الأخيرة لا تستقيم أيضاً مع ثقافة وذهنية ما تزال تعلق بها شوائب فكر شمولي.

الجزء الآخر من عملية الدمقرطة، هو تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني وتفعيل دورها وتجذيره في ظل الحياة الديموقراطية، ان هذه المهمة تعني تحديث أسس المجتمع وتطويرها وتطوير بنية العلاقات القائمة فيه. لقد شهدنا ملامح أولى مبشرة لهذا التوجه مع شروع الشيخ حمد في التعامل مع الجمعيات والمؤسسات الأهلية باعتبارها ممثلة لشرائح المجتمع منذ بداية طرح الميثاق واشراك ممثليها في مناقشته. ويبقى الآن ان نعمل على تعزيز هذا التوجه كأحد المقومات الأساسية لعملية دمقرطة المجتمع عبر تحديث بنية العلاقات القائمة فيه وآليات عملها ودورها.

واذا طرحنا مهمة “تعزيز الحريات العامة” كاحدى مهمات عملية الدمقرطة الشاملة، فان هذا يوجب علينا إدراك حقيقة أساسية تغيب عن بال الكثيرين في مسألة الحريات. فالحريات لا يمكن اختزالها في الحريات السياسية فحسب، ان هذا سيبقى اجتزاء لا يستقيم مع مفهوم الحريات وجوهر الديموقراطية القائم أساساً على حرية الاختيار من دون الإكراه أو القسر المادي أو المعنوي. فتعزيز الحريات يوجب علينا ان نصل بفهمنا الى ممارسة احترام حقيقي لكيان الفرد مثلما ينص عليه الدستور والميثاق عوضاً عن “عقلية الجموع” المتوارثة في ثقافتنا العامة، أي احترام “الفردانية –INDIVIDUALITY” وهو الشرط اللازم لتفعيل احترامنا للفرد وامكانياته وكفاءته وخياراته بعيداً من مقاييس اللون والجنس والعرق والدين، أي المقاييس التي لا تجعلنا ننظر للفرد إلا ضمن كتلة بشرية أياً كانت، قبلية أم مذهبية أم عرقية.

هذا لا يوجب على الأجهزة الرسمية ان تتمثل هذا الفهم في الحياة اليومية فحسب، بل يوجب علينا أيضاً ان نصحح الخلل في ثقافتنا العامة ومفاهيمنا وان نتخلى عن ما في ذهنيتنا من دوافع الإكراه حيال الفرد عندما يتعلق الأمر بحقه في التعبير عن رأيه وإبداء وجهة نظره وخياراته من دون خوف من تهمة الخروج على إرادة المجموع سواء في حياته الخاصة أم في نشاطه العام.

يهمني أخيراً ان ألفت الى ان هذه الآفاق الواعدة لا تقلل من صعوبة المهمة، ولست بحاجة للتأكيد على ان الوحدة الوطنية بمفهومها الاشمل وكحقيقة وممارسة يومية هي أداة ضرورية لادارة المستقبل. فالتحول للملكية الدستورية يبقى الإنجاز التاريخي الأهم بامتياز، ولست أعول هنا سوى على الإيمان الذي لا يتزعزع بقيمة هذا التحول التاريخي غير المسبوق وإدراك جوهره وآفاقه المستقبلية والتمسك به بقوة لا يتسرب اليها اليأس في يوم تحت أي مبرر.

 

رابط المقال في ارشيف الحياة:

http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/1998%20to%202002/Alhayat_2001/03-March-2001/03-General/2001-03-14/p16-02.xml.html