الاقتراع على الميثاق الوطني… واستجابة الحوار

 محمد فاضل

في الأول من شباط فبراير، كان أحد الأصدقاء يسألني الرأي حول التصويت على الميثاق الوطني. لم تكن لديه أية مشكلة. لقد اتخذ قراره بالتصويت لمصلحة الميثاق، لكن ما أحسسته هو أن طلب الرأي لـــم يكن بهدف الاطمئنان للقرار، بل لتبديد تنازع داخلي في مشاعره، ما بين قراره وبقايا ألم شخصي باقية لدى شقيقه من تجربة عاشها قبل سنوات قليلة مضت.

إن قصة هذا الشقيق حدثت في الظروف الاستثنائية التي عاشتها البحرين في غمرة الاضطرابات قبل سنوات، حيث تعرض للاحتجاز تسعة شهور من دون محاكمة. وثمة جرعة ألم باقية من التجربة لدى الشقيق تدفعه الى اللامبالاة حيال كل ما يتعلق بالشأن العام.

ومثل هذه القصة ثمة الكثير من القصص، وبدرجات تتفاوت من الاحساس الباقي بالألم، سواء للأشخاص أو لعائلات أصابها ما أصاب الكثيرين غيرها في تلك الظروف الاستثنائية. لكن الشعور السائد الآن في البحرين، هو شعور رائع لشعب يتمتع بالمقدار اللازم من الذكاء والحصافة لكي يميز النقطة التي يتقاطع فيها الشخصي بالعام، عندما يكون مطلوباً من كل فرد أن يبدي رأيه في قضية مهمة ومصيرية من قضايا الشأن العام وتوجهاته الكبيرة، حاضراً ومستقبلاً..

 

العفو العام

فغداة إعلان العفو العام الذي أصدره الأمير الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة يوم الاثنين الخامس من شباط فبراير، شــعر البحرينيون بأن صفحة الآلام طويت، والتأم شمل عشـــرات العائلات بعودة أبنائهـــا إلى أحضانها من جديد. وعندما تتفحص الوجوه التي ازدحم أصحابها لتحية الذين أُطلق سراحهم، أو وجوه البحرينيين عموماً، لن يخامرك الشك في أن الاستبشار الظاهر على الوجوه والقسمات ليس سوى المظهر المتمم لقناعة داخليــة، بين الفرد ونفسه، بأن ما يجري ليس ايجابياً فحسب بل يتوجب التعبير عن هذا الشعور عملياً.

لقد تخلص البحرينيون من مقدار غير قليل مـن سلبيتــهم التي طبعت أسلوب تعاطيهم الشأن العام، حتى قبل شهور خلت عندما لم يكن رد الفعل الذي يمكن أن يرصده المرء، إلا الانتظار. وقتذاك كانت التساؤلات أكثر من الأجوبة لأن فرص الحوار لم تتح بعد. ومنذ أن شرعت أبواب الحوار، في المنتديات العامة وفي الصحافة وأجهزة الاعلام، وبدأ الناس يتخلون عن وجلهم ويطرحون تساؤلاتهم، كان ذلك كفيلاً بأن يسهم في صوغ ردود الفعل على نحو أكثر إيجابية.

إن أساس هذا الشعور يبقى واقعاً حياً ملموساً مملوءاً بالدلالات والخطوات العملية التي تدفع المرء في جدله الداخلي بينه وبين نفسه، إلى الاعلان بثقة عن أن قراره النهائي جاء ثمرة جدل داخلي وصل حدوده القصوى، يرفده الجدل الدائر في عموم المجتمع.

ربما كان هذا التفصيل أكثر تبسيطاً لدى أحد خطباء الجمعة في البحرين. ففي خطبته يوم الجمعة الثاني من شباط في أحد جوامع مدينة حمد، شرح الخطيب مراحل ردود فعل الناس حيال الميثاق مستخدماً التوصيف نفسه لمراحل ردود الفعل من الانتظار الى التردد وصولاً الى الاقتناع. وتوالي حديث خطيب الجمعة وحديثي مع الصديق أراه مؤشراً بالغ الدلالة على جوهر الشعور العام السائد في البحرين حالياً. فالنخب المسيسة والمثقفة في الداخل والرموز الباقية من معارضة الخارج طرأ على لهجتها التغيير نفسه.

لكن القناعات والشعور بالرضا لا تتشكل بالحوارات المجردة. ان الحوار وسيلة مثلى يختبرها البحرينيون هذه الايام، وسيختبرونها في المستقبل. لكن في الوقت الذي كان البحرينيون يتحاورون حول الميثاق وتوجهـات العهد، ويطرحون التساؤلات، كان الأمير يصيخ السمع جيداً لما يطرحونه في هذه الحوارات. أما التفاعل فكان مباشراً وفورياً.

فرفعت الإقامة الجبرية عن الشيخ عبدالأمير الجمري، وهو مطلب ورد في مداخلات خلال ندوة عامة مفتوحة. وصدر قانون العفو العام، وهو مطلب تم التعبير عنـه في الندوة نفسها. وهذه السرعــة في الاستجــابة لطموحات الناس تعطينا تفسيراً أكثر وجاهة للاستعداد المسبق لدى الأمير لاتخاذ مثل هـذه الخطوات والمبادرات، خصوصاً مبادرة العفو العام.

ففي الاسبوع البادئ في الاول من شباط وحتى السادس منه، أعلن العفو العام. وفيما كان المشمولون به يعودون في اليوم التالي الى بيوتهم، كان الشيخ حمد يزور الســيد علوي الغريــفي، أحد كبار رجال الدين الشيعة في البحرين في منزله بحضور عدد من كبار رجال الدين الآخرين.

وإذا ما اتفقنا على أن خطوة العفو العام جاءت لتتوج سلسلة مبادرات مماثلة أقدم عليها الشيخ حمد طوال العامين الماضيين، فإن هذه الحركة الدؤوبة، الى الاتصال اليومي بالناس وخطوات تحسين الوضع المعيشي، ليست علامات حسن نية ومحبة يبديها الأمير تجاه شعبه فحسب، بل إنها في بعدها الأهم ربط محكم بين التوجهات السياسية وبعدها الاجتماعي.

 

الميثاق الوطني

ولا شك في أن تضافر هذه العوامل كان حاسماً في صوغ رد الفعل الشعبي. فعندما امتلك البحرينيون وسيلة الاقناع المثلى، أي الحوار، وسلسلة من المبــادرات الدؤوبة من جانب الأمير تعاملت مع أكثر الملفات أهمية وحساسية وفي شكل غير مسبوق، لم يكن هناك ثمة مجال للتردد في تأييد التوجهات المعلنة والمؤطرة في الميثاق الوطني. وفي لقائهم مع الأمير، في اليوم التالي للعفو العام، كان أحد المطالب التي تقدم بها رجال الدين، في منزل السيد علوي الغريفي هو تطبيق ما ورد في الميثاق فور التصديق عليه في الاستفتاء. وفي هذا مؤشر واضح على أن البحرينيين قد حسموا قرارهم لمصلحة الميثاق.

وفي إطار الجدل، يمكن ان تتعدد القراءات، على أكثر من نحو، لكي يبرهن المرء من خلالها على ان الميثاق يمثل نقلة كبيرة لمستقبل وحياة سياسية تعتمد على المشاركة الشعبية في صنع القرار. لكنني، وأنا أعرض الى المستويات الأكثر خصوصية من ردود فعلنا، أي المستوى الذي يهم أولئك الذين ما زالت لديهم بقية من ألم شخصي، أجدني مسوقاً الى خلاصة وحيدة ختمت بها حديثي مع صديقي الذي بدأت به: “ان نصوت بنعم للميثاق فهذا معناه إننا نصوت كي لا يتكرر ما حدث لشقيقك وكي لا يتكرر لأحد غيره في المستقبل”.

 

رابط المقال في ارشيف الحياة:

http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/1998%20to%202002/Alhayat_2001/02-February-2001/02-General/2001-02-14/p10-02.xml.html