تجديد النهضة البحرينية بأدوات دستورية … ولكن قنوات الحوار الأشمل قليلة

محمد فاضل

عندما استمع البحرينيون لأميرهم الشاب الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وهو يعلن، في خطاب العيد الوطني، عزمه على استحداث نظام المجلسين في السلطة التشريعية على غرار الديموقراطيات العريقة، كانت لجنة الميثاق الوطني قد قطعت شوطاً لا بأس به في مناقشتها لمسودة الميثاق. ومع هذا الشوط كان البحرينيون مهيئين لاستقبال الإعلان الرسمي عن التوجهات الجديدة على صعيد الحياة السياسية، وهي توجهات ذاعت خطوطها العريضة منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

في ذلك الشهر، كان الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة باشر سلسلة من اللقاءات الموسعة بدأها بأعضاء الحكومة، ثم مع رئيس واعضاء مجلس الشورى، ومع الجمعيات المهنية والكتاب ومختلف الفاعليات في مختلف القطاعات. وطرح سموه هذه التوجهات وعرض لها بالشرح والتفصيل. لكن من الإجحاف الاستنتاج أن هذه التوجهات تم الإعلان عنها في تلك اللقاءات فحسب.

ففي أول خطاب له بمناسبة العيد الوطني العام الماضي 1999، قدم الأمير ما يمكن أن نسميه منطلقات توجهه. وفيه حدد ما يمكن أن نطلق عليه برنامج العمل الذي ينوي تطبيقه في السنوات المقبلة. لكن ثمة عبارة مفتاحية في ذلك الخطاب لا بد من التوقف عندها ملياً لأنها أساس توجهات الشيخ حمد. ففي خطابه في العيد الوطني، العام الماضي، يقول الأمير: “فلا بد من العمل الجاد والمثمر أيها الأخوة والأخوات لإحياء نهضة البحرين وتجديدها لمواكبة المستجدات المتسارعة في عالمنا المعاصر”. إن هذه العبارة هي التي استوقفت رجلاً مخضرماً مثل وزير النفط والصناعة البحريني السابق يوسف الشيراوي الذي قدم أفضل قراءة للخطاب الأميري العام الماضي في مقاله المنشور بصحيفة “الأيام” في 25 كانون الأول ديسمبر 1999. والعبارة تتكرر في أكثر من فقرة وبأكثر من صيغة.

وفي فقرة تالية، يقول: “وضمن هذا التوجه لتجديد نهضة البحرين منذ بدء المسيرة، قررنا إحياء نظام الانتخابات البلدية التي كانت البحرين سباقة إليها في هذه المنطقة منذ أوائل القرن العشرين بمشاركة مختلف الفئات الاجتماعية، وإدلاء المرأة بصوتها إلى جانب الرجل”. وفي مقاله ذاك، خلص الشيراوي الى أن “ما جاء في خطاب الأمير يحتاج ربما الى أكثر من عام لتنفيذه وتطبيقه وقياس نجاحه، فهل هذا ممكن؟”.

حسناً، ماذا في جدول الأعمال الآن بعد الخطاب الأميري لهذا العام؟ أي بعد عام كامل منذ الخطاب الأول؟

ها هي بعض العناوين: حياة نيابية تقوم على نظام المجلسين، مجلس منتخب مباشرة من الشعب، ومجلس شورى من أهل الخبرة معين” فصل تام بين السلطات الثلاث وتفعيل وترسيخ استقلالية القضاء عبر فصله عن السلطة التنفيذية، إنشاء ديوان للمحاسبة وتفعيل المراقبة والشفافية في العمل الإداري، انتخابات بلدية تقود لمجالس بلدية مستقلة تماماً.

وإذا ما أضفنا الى ذلك، الطموحات المعلنة لإنعاش الاقتصاد، والرغبة في إشراك القطاع الخاص ليس في ميدان الاقتصاد فحسب بل في ميدان التعليم والعمل الاجتماعي، وربط هذا الإنعاش الاقتصادي والتطوير التعليمي والاجتماعي بشكل واضح ومحدد بالمواطنين وخصوصاً ذوي الدخل المحدود، بما يعكس الرغبة في تعميم المكتسبات وإشاعتها إلى حدها الأقصى اجتماعياً، فإننا نكون أمام رؤية شاملة لميادين ومفاصل المهمة الأكبر، تجديد النهضة.

ومن دون أن نغفل الحديث عن التحول للملكية الدستورية وما صاحب هذا من تساؤلات وتعليقات، فإن الملامح النهائية لمهمة تجديد نهضة البحرين التي أشار إليها الأمير في خطاب العام الماضي قد اكتملت وتحددت أدواتها وقنواتها. إنه جدول أعمال حافل دون شك. وأنا، مثل آخرين غيري، بت ألمس بقوة كيف أن القاعدة العريضة من الناس في البحرين ما تزال لا تبدي من ردود الفعل سوى الانتظار. لكن هذا لا يتعلق بالناس بقدر ما يتعلق الأمر بواقع موضوعي فرض الكثير من تأثيراته هنا. المشكلة هنا هي أن قنوات الحوار الأشمل ما تزال معدودة في البحرين. وطيلة السنوات الماضية افتقد البحرينيون أداة الحوار الأساسية، وقناته الأولى والأهم هي المجلس التشريعي. وباتت المهمة ملقاة على عاتق قنوات أخرى كانت أقل كفاية، بمقياس مهني بحت، من حيث إمكانياتها وقدراتها، وبمقياس موضوعي، كون المهمة أكبر منها، وأعني بها قناة الإعلام والصحافة المكتوبة تحديداً. ولكي نتبين مدى الأثر السلبي لمحدودية قنوات الحوار، ليس لنا بد من الإحالة مرة أخرى للمخضرم يوسف الشيراوي ومقاله: “قراءة متأنية في الخطاب الأميري”.

يقول الشيراوي: “البحرين ليست الهند سكاناً ولا سيبيريا مساحة، لكن أي مجتمع أو أية مؤسسة تماماً مثل الفرد تكتسب بمرور الوقت درجة من المحافظة والاستقرار يجعلها تعتمد وترتاح الى القديم المجرب والتردد في تجربة الجديد”. ويضيف في فقرة أخرى: “وكل ما أخشاه هو ألا يرتفع شعب البحرين بمسؤولية ووعي تام الى هذه المسؤولية… هل سوف يمارس حرية الترشيح والانتخاب في المجالس البلدية أم أنه لا يريد وجع الدماغ؟”.

مرور الوقت والاستقرار والمحافظة لم تفعل مفاعيلها في الناس، ولا في طبقة كاملة من التنفيذيين في مستويات الإدارة العليا والوسيطة، بل مارست أكثر تأثيراتها في الصحافة والإعلام اللذين ينظر إليهما هنا في البحرين، كقناة الحوار الأساسية في ظل غياب القنوات الأساسية الأخرى. لكن الصحافة والإعلام، طيلة السنوات الماضية، برهنا على أنهما الأداة الأقل كفاية للنهوض بمهمة مثل هذه المهمة. فالتوجهات الكبرى تحتاج الى ما هو أكثر من الإشادة التي درجت عليها الصحافة وأجهزة الإعلام. وإذا كان الأمر يبدو مفهوماً برده الى تأثير فترة السكون والمحافظة التي يشير إليها الشيراوي، فإن تعميم هذه التوجهات وتقديمها للناس، وإثراءها بالحوار والمناقشة من صميم مهمة النشاط الثقافي والإعلامي. لكننا لم نتابع ولم نلحظ أي محاولة من الصحافة والإعلام للتعاطي طيلة ما يقرب من عامين على هذه التوجهات. فالناس لم تقرأ ولم تتابع يوماً على سبيل المثال موضوعاً أو حواراً حول مزايا الانتخابات البلدية، والفارق بين أن تدار الشؤون البلدية من قبل الحكومة وبين أن تدار من قبل المواطنين أنفسهم. ولم يقرأ الناس أو يتابعوا أي حوار مستفيض حول الإنعاش الاقتصادي، وسبل تحقيقه، وكيفية تعميم مكاسبه الى الحد الأقصى اجتماعياً، فتشمل ذوي الدخل المحدود الذين يشير إليهم الأمير صراحة في خطابه. هنا تتلاقى سلبية القطاع الخاص بسلبية الصحافة والإعلام ليصبح الناس في النهاية متلقين سلبيين ولم تزايلهم التساؤلات حيال توجهات كبرى يتم التعبير عنها ضمن هدف وغاية أبعد هي تجديد نهضة البحرين.

ففي الوقت الحاضر، تقوم لجنة مكونة من 46 شخصاً بصياغة وثيقة مهمة ومصيرية هي الميثاق الوطني الذي سيطرح على استفتاء شعبي. إن مفردة الميثاق الوطني في ذاتها مفردة مستجدة في الخطاب السياسي في دول الخليج. ويمكن أن ننظر للميثاق بأكثر من معنى، وأكثر من زاوية. فهو بمعنى ما يمثل تجديداً لصيغة العقد الاجتماعي في هذا البلد. ويمكن النظر إليه بالتأكيد كإطار للتوجهات الجديدة لعهد الشيخ حمد بن عيسى تعطي تعريفاً أكثر دقة لعلاقة الدولة بالمواطن، وتسهب في شرح المسؤوليات والواجبات والحقوق، وتعريفاً عاماً لعلاقة المؤسسات الدستورية والسياسية، وتؤكد في النهاية على ثوابت مجتمع البحرين وقيادته وتطلعاته المستقبلية. ويمكن أن ينظر إليه باعتباره المرجعية السياسية والأخلاقية للعهد.

لكن هذه الأهمية والطابع المصيري والتاريخي المهم الذي يتصف به الميثاق الوطني، والآفاق التي يمكن أن يقود إليها، لا تقتصر على الميثاق بل تتعداه الى التوجهات التي جاء الميثاق كإحدى أدواتها الأساسية في هذا الطور الانتقالي في تاريخ البحرين الحديث. وهذا يستوجب، من وجهة نظري، إشاعة التوجهات والمبادئ التي يتضمنها، وخلاصات ورشة التفكير التي تتعامل معه وطرحها للتداول والنقاش على أوسع مدى ممكن. والأمر سيطرح للاستفتاء الشعبي في نهاية المطاف. وهذا يستوجب التفكير بصوت عال، وإشراك الناس الى أقصى حد ممكن في مناقشته وإثرائه واستنفاد كل تساؤلاتهم قبل أن يعطوا كلمتهم فيه.

إلى هذا، فإن الانتخابات التشريعية في العام 2004 تبدو اليوم محطة مهمة وجوهرية. وفي سبيل الوصول إليها، ثمة الكثير مما يستدعي العمل. وأهم هذا الكثير تهيئة البنية التشريعية المناسبة، مثلما هو جارٍ الآن ومثلما سيجري في المستقبل القريب. لكن هذا يستدعي أيضاً تهيئة الناس لولوج هذه المرحلة وتحقيق الأهداف والغايات الكبرى بأكبر قدر ممكن من السلاسة والانسجام والوعي. وهذه المهمة تأتي في سياق عملية تحديث شامل، دستوري وسياسي واجتماعي واقتصادي. وهذا الشمول في المهمة يحيلنا الى مسألة بالغة الأهمية.

ففي أحد وجوهها، ترمي عملية التحديث والتطوير التشريعي الى إعادة صياغة علاقة الدولة بمواطنيها على أساس المشاركة الفاعلة في صنع القرار، وتطوير الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع بشكل عام. وهذا يستوجب بداية تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، وخصوصاً في أساسها القانوني، ونحن هنا أمام القانون المدني الذي يفصل في المسؤوليات والحقوق المتبادلة بين الدولة ومواطنيها. والتطور الأهم سيبقى باب “المسؤولية التقصيرية”.

لقد أنجز مجلس الشورى السابق مناقشته لمشروع القانون المدني لكنه ترك باب المسؤولية التقصيرية من دون معالجة. وأهم ما يتوجب عمله الآن هو وضع النصوص المناسبة في هذا الباب كي يعاد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن في ميدان المسؤولية التقصيرية، أي أن يتاح للمواطن حق مراجعة موظفي الحكومة وأجهزتها، ومقاضاتهم في حال الخطأ أو الضرر بقوة القانون. إن هذا لن يعطينا التعريف المناسب والمنسجم مع التوجهات الديموقراطية فحسب، بل إنه يشكل القوة الفعلية والقانونية للرقابة والشفافية.

إن القراءة المتأنية لكل ما يجري في البحرين الآن تشير من دون لبس الى أن المطروح هو إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد بين الحاكم وشعبه يقوم على أساس المشاركة الشعبية في صنع القرار، وتطوير الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع ضمن مناخ حريات عامة، وتعزيز النمو الاقتصادي وتعميم مكاسبه الى أقصى الحدود الممكنة اجتماعياً. والطموحات تبدو كبيرة وتعبيراتها غير مسبوقة. لذا فإن أول ما تستدعيه هو تغيير في طريقة التعاطي معها، وتعزيزها، وإشاعتها عبر الحوار والمناقشة المستفيضة على أوسع مدى ونطاق.

لعل ما يدفع المرء للتفاؤل هنا هو أن طموحات التغيير تأتي تعبيراً عن تلاق، غير مسبوق بين الإرادة الشعبية وإرادة قيادتها السياسية وهي تنطلق أساساً من البناء على المكتسبات القائمة بشكل متدرج وعقلاني. ورصيد المكتسبات هنا كبير، وأكثر من مشجع للتأسيس عليه: اقتصاد حر ومرن، ومركز اقتصادي ما زال يملك الكثير من فرص النمو والجذب، بنية تحتية متطورة، معدلات تعليم عالية ومعدلات تنمية بشرية عالية، وفئة وسطى عريضة، وخبرة عريقة وراسخة في التخطي والإدارة تعود لأوائل القرن، أي ما يحتاجه البحرينيون وهم يلجون هذه المرحلة الانتقالية المهمة في تاريخهم.

رابط المقال في ارشيف الحياة:

http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/1998%20to%202002/Alhayat_2000/General/427/42727.xml.html