تيارات الرأي وصحافته في إيران وفي الكويت

محمد فاضل 

فضاء الصحافة في الكويت كما في ايران، يبدو على الدوام قاصراً على رغم أجواء الحرية، عن التعبير عن درجات الاختلاف والافتراق والتلاقي في وجهات النظر التي تتداولها النخب المثقفة وا

فعدا قوانين النشر، فان الصحافة لا تبدو الميدان المناسب الذي يمكنه احتمال تلك الدرجات القصوى من الاختلاف في الرأي ولا الدوافع الحقيقية للاختلاف وممارسته على هذا النحو. فالصحافة يحدها سقف يرتفع قليلاً عن السقف الذي يحد الافراد وفي كلا الحالين نحن أمام وضع نموذجي لصراع ارهق المجتمعات العربية والاسلامية واستـــنزفها عـــبر قرون، والمضــي قدماً في المقـــارنة قد يكـــون مفـيداً رغم اختلاف الظروف ومرجعيات الجدل.

في ايران تبدو الامور دوما وكأن الوضع على وشك الانفجار، فمنذ انتخاب سيد محمد خاتمي رئيساً لايران قبل حوالي العامين، ظل اختبار القوى يتأرجح بين معارك الشوارع ومصادمات الطلاب في الجامعات الى ان بلغ ذروته في احداث الشهر الماضي في جامعة طهران، أما حرب الجهاز القضائي مع الصحافة فانها فصل آخر أكثر تطوراً وأكثر قدرة على التعبير عن طبيعة الصراع ودوافعه الحقيقية.

لكن لنتأمل الوضع جيداً عندما يستعرض المرء رموز التيارين المتنافسين في ايران، تيار الاصلاحيين وتيار المتشددين. ففي كلا التيارين تطل عمائم رجال الدين أنفسهم الذين يحكمون ايران منذ العام 1979، والحكم على عداء رجل دين للثورة يبدو امراً صعباً يقتضي قدراً كبيراً من الدقة والبراهين وجرأة بالغة. لقد شكل الفرز بين رجال دين متشددين وآخرين اصلاحيين نوعاً من المأزق النفسي، لكن الامر سرعان ما بلغ ذروة اخرى بدت وكأنها محاولة للخروج من هذا المأزق عندما بدأت أصوات المتشددين تشكك في أهلية الرئيس محمد خاتمي الدينية وكفاءته. وفيما تمّ زج رجال دين آخرين من الاصلاحيين في السجون وتعرّضوا للمطاردات والمحاكمات مثل خوئينها وعبدالله نوري وتمّ استبعاد العشرات منهم في الانتخابات البلدية، بدا واضحاً ان انتماء بعض رموز وقادة الاصلاحيين الى مؤسسة رجال الدين لم يعد يمنحهم اي حصانة من أي نوع، ويمكن الاستنتاج هنا من دون مشقة بأن الصراع ضمن هذا المنظور فقط هو صراع بين قراءتين مختلفتين للدين والتعاليم بالاخص عندما يتعلق الامر بفقه الحياة.

في الكويت، يبدو التيار السلفي أكثر تماسكاً ازاء الانشقاقات، فهذا التيار بكل ممثليه ورموزه وجمعياته يبدو أكثر ميلاً للمحافظة وللالتزام بمفاهيم سلفية خاصة عند التعامل مع الطروحات الاخرى والتيارات الاخرى. فالجدل هنا يدور ضمن مرجعية مختلفة وعناوينه تبدو مختلفة وان تشابهت مع الحالة الايرانية، أي الالتزام بالتعاليم والشريعة. لكن في كلا الحالين نحن أمام قراءات مختلفة لمفهوم الالتزام بالدين والكيفية التي يجب ان يتم التعامل بها مع درجات الالتزام به والاهم ان ايمان غير المنتمين للتيار الديني عرضة للتشكيك والمساءلة في ايران كما في الكويت.

لكن بين المجتمعين الايراني والكويتي محور آخر للمقارنة عندما تؤكد الارقام والدراسات في كلا البلدين ارتفاع نسبة المصابين بالاكتئاب في ايران وخاصة في اوساط النساء وارتفاع معدلات الجريمة في الكويت وفق ما تؤكده الارقام الرسمية. واذا كانت المحاججة ممكنة في مسألة الاكتئاب باعتباره مرض مجتمعات القرن العشرين، فان ارتفاع معدل الجريمة في مجتمع رفاهية مثل مجتمع الكويت لا بد ان يلقي بتساؤلات جدية عن أسبابه. فاذا كان الغزو العراقي بكل تبعاته يعد سبباً رئيسياً لاختلال نفسي ما تزال آثاره باقية وتتفاعل، فان استمرار الظاهرة على هذا النحو لربما يشير الى مداولات اخرى ما تزال غائبة عن الاذهان. هل هي مؤشر لانتشار ثقافة عنف..؟ أم أزمة قيم..؟

أياً كان الجواب واياً كانت الاجتهادات واياً كانت درجة تورط النشء من الكويتيين في هذه الظاهرة، فان من المتوجب النظر اليها بقلق عميق باعتبارها نتاجاً لوضع عام يعاني من اختلال ما يبدو الكويتيون أجدر من غيرهم على دراسته وتحليله. لكن ما علاقة الاكتئاب وانتشار الجنح بصراع التيارات السياسية وبالقراءات المتباينة للدين ودوره في المجتمع…”.

ان السلفيين في الكويت يواجهون منذ فترة بتهمة دفع المجتمع الكويتي نحو التجهم والمسؤولية عن الركود الاقتصادي ايضاً وهؤلاء يردون ببساطة ان الانتعاش الاقتصادي لا يمكن ان يتحقق بحفلات غنائية فقط بل بخطط جادة ومدروسة وتنويع الموارد بشكل مدروس. عدا ان توجيه التهمة نفسها للإسلاميين تشير للمأزق نفسه الذي يحياه الكويتيون منذ فترة رغم ان السلفيين قد لا يكونون الجهة الوحيدة المسؤولة عنه. ان حال المراوحة تبدو جلية في مجتمع قطعت شرائحه اشواطاً بعيدة من التحرر الثقافي والاجتماعي لكن ضمن منظومة من القوانين والاعراف ما تزال تميل للمحافظة. وبقدر ما يمكن ملاحظة علامات وجرعات تحرر لدى فئة من الناس يمكن ملاحظة علامات تحفظ وسلفية لدى فئات اخرى. ولان النزعات المحافظة والسلفية تستند الى منظومة تقاليد وثقافة شعبية سائدة متوارثة، تبدو المغايرة صعبة للغاية تتطلب ممارستها قدراً كبيراً من الجرأة والشجاعة. المجتمع الكويتي مجتمع محافظ مثله مثل بقية مجتمعات الخليج. لكن الكويتيين يتميزون عن باقي الخليجيين بالجرأة في الاعلان عن آرائهم بقدر ملحوظ من الاعتداد بالنفس وهم يتكئون على تقاليد حياة سياسية تقوم على المشاركة الفعالة في صنع القرار.

من هذا المزيج كله، وفي ظل مجتمع يمضي في أقصى درجات التحرر الثقافي والاجتماعي ويمعن اكثر في اقصى درجات المحافظة، تصبح العلاقة بين الاتجاهين علاقة اندفاع وكبح تبدو المراوحة هي النتيجة المؤكدة لها. وعندما يتعلق الامر بالمجتمع وخياراته الكبرى في الاقتصاد والسياسة والثقافة، فان المراوحة هي شلل بالتأكيد.

زائر الكويت هذه الايام لن تفوته ملاحظة افتقاد المجتمع الكويتي لحيويته التي ميزته على الدوام، ولا يقتصر الامر على الاقتصاد فحسب، وهذا اذا جاز لنا ان نرد جزءاً كبيراً من علامات ركوده الى المتغيرات الاقتصادية العالمية، فانه في جزء منه يقدم لنا صورة لمجتمع ما زال أسيراً لحالة مراوحة بحثاً عن خيارات كبرى، وعندما يراوح الكبار وتراوح النخب الثقافية والفكرية وتبقى أسيرة توجسها ومكايداتها، فان حالة المراوحة تعكس نفسها بشكل أكثر دراماتيكية على أولئك الذين لا تجذبهم السياسة وأجواء النخب السياسية ويصبح فضاء الصحافة قاصراً عن التعبير عن المدى الذي يمكن ان تذهب اليه حالة المراوحة في أوساط الناس، فالنخب المشغولة بخلافاتها وتصفية حساباتها مع بعضها تستهلك كل طاقتها في هذه الاجواء أما ما يجري في المجتمع وما يستجد من ظواهر مثل انتشار الجريمة وغيره فانه في أحسن الاحول لدى هذه النخب يبقى من مسؤولية الحكومة فحسب، هذه مسؤولة بالتأكيد عن أمن الناس وطمأنينتهم، لكن التساؤل عن حدود المسؤولية سيقودنا حتماً الى النخب السياسية نفسها التي ما تزال أسيرة اجواء المراوحة بجدارة عبر بقائها أسيرة طروحاتها التي لم تتغير منذ زمن بعيد خاصة في علاقتها ببعضها، فهي لا تحمل بعضها على محمل الجد، فلم التحسر على ضياع الاحساس بالمسؤولية لدى النشء ولدى أولئك الذين تورطوا في ظاهرة الجريمة والمخدرات في مجتمع مثل مجتمع الكويت اثبت في أحلك الظروف قدرته على صوغ نسيج علاقات أهلته لمقاومة احتلال بغيض وللصمود رغم التضحيات الكبرى.

“التجهم” في الكويت و”الاكتئاب” في ايران مع فوارق المقارنة، هي عناوين لحالة مراوحة تعتري مجتمعين من أكثر المجتمعات حيوية، ايران بملايينها الستين وتراثها الفكري والثقافي العريق والكويت بحيوية مجتمعها الصغير وريادتها في ميادين كثيرة في الماضي القريب.

رابط المقال في ارشيف الحياة:

http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/1998%20to%202002/Alhayat_1999/General/466/46688.xml.html