هل الكويتيون أكثر محافظة من اليمنيين؟

محمد فاضل 

في الكويت كما في ايران، تمارس النخب المثقفة والمسيسة حرياتها عبر فضاء محدد السقف “الصحافة”، وعلى هذا النحو، فان ممارسة الحرية في هذا الفضاء تظل محكومة بقوانينه التي تميل عادة للتحفظ والرصانة باعتبار ان الصحافة لا تزال في مجتمعاتنا تمارس دور حارس القيم. وضمن هذا الفضاء، يمكن اضافة بلدان اخرى بفوارق في المقارنة تقتضيها طبيعة المجتمعات نفسها وثقافتها السائدة وخصائصها النفسية وتراثها الاجتماعي.

هنا ثمة تعريفات متداولة تطلق على اشخاص بعينهم وعلى تيارات بعينها تعبر عن نفسها ولا تتحفظ في الانتماء لهذه التعريفات. فمن اليمين المحافظ والاصلاحيين في ايران الى السلفيين والليبراليين في الكويت الى التسميات الواضحة للمؤطرين في تنظيمات حزبية قائمة في اليمن: المؤتمر الشعبي العام، الاصلاح، الاشتراكي، الناصريين وغيرها، تتبدى صورة مجتمعات تمارس حريتها ضمن فضاء حددته سلفاً حدود التسامح الذي يمكن ان يقبل به حكام هذه البلدان وقواها المؤثرة. ثمة مرجعيات محددة وواضحة ايضاً لجدل الحريات الذي يأخذ بتفكير الايرانيين والكويتيين واليمنيين. الثورة في حالة ايران واليمن، والدستور كما في الكويت. لكن ما يجري في هذه البلدان هي معارك لا يحتملها فضاء الصحافة نفسه، فهي معارك تبدو أكبر من طاقة هذا الفضاء كما في ايران واصغر الى حد الاعاقة والتهميش كما في حالة الكويت. القاسم المشترك يبقى هو ان ما يدور في ساحة الصحافة باعتبارها فضاء حريات علني بجانب البرلمان هي تعبير متحفظ للغاية عن معارك تبدو بالنسبة للكثيرين بروفات لمعارك مؤجلة.

في اليمن مثلاً، لم يثر استخدام صحيفة للتعبير الدارج لعضو الذكورة سوى رد فعل من قارىء عبر رسالة في بريد الصحيفة استكثر فيها على الصحيفة هذا المبلغ من الصراحة، فيما هذه ردت عليه بان الموضوع كان موضوعاً علمياً وصحياً وان لا داعي للخجل من مناقشة قضايا من هذا النوع بمسمياتها. لكن في الكويت، تلاحق استاذة الفلسفة بجامعة الكويت الدكتورة عالية شعيب بسبب قصيدة حاورت فيها تفاحة باعتبارها انثى، حيث اعتبر هذا المقطع نوعاً من الاباحية. كيف يمكن فهم الامر هنا بين اليمن والكويت؟ ان في الامر مفارقة حتماً بين مجتمع محافظ مثل مجتمع اليمن ومجتمع يتمتع بدرجات مقبولة من التحرر مثل مجتمع الكويت. فهل الكويتيون هنا أكثر محافظة من اليمنيين؟

هذا تفصيل يأتي بمستوى ما تغرق به الكويت هذه الايام من جدل حول قضايا مرفوعة ضد كتّاب. في اليمن ربما لن يسع الوقت لكي يلتفت أحد الى صحيفة في بلد تصدر فيه أكثر من 140 صحيفة وعشرات المجلات وتستحوذ على مواطنيه هموم معيشتهم. لكن هل يعني هذا جواباً لما يجري في الكويت عندما يتاح الوقت على هذا النحو من الكرم لقراءة ديوان وقصيدة وانتقاء مقطع منها لرفع دعوى ضد كاتبة القصيدة؟

في قضية الدكتور احمد البغدادي، فان محور القضية كلها هو اللفظة التي استخدمها البغدادي لوصف مرحلة الجهاد المكي للنبي محمد (ص) قبل الهجرة، والكثيرون يرون ان الدكتور البغدادي لو كان استخدم لفظة اخرى غير “الفشل” لما كانت الضجة اصلاً. وعلى أي حال، فان البغدادي غداة اطلاق سراحه بعفو اميري، أعاد تأكيد اعتذاره عن استخدام اللفظة في مقال بصحيفة “الانباء” نشر يوم الاربعاء 20 تشرين الاول اكتوبر.

ولأن الأمر غارق في التفاصيل على هذا النحو، فإن الدعوة لاحترام القضاء واحكامه كسلوك يليق باحترام مؤسسات المجتمع المدني، تبدو في نظر كثيرين أكبر بكثير مما يحتمله هذا الطابع الغارق في التفاصيل، فاحترام القضاء بنظر من طالبوا باطلاق البغدادي يتوجب في قضايا أكبر من هذه. ثمة حلقة ضائعة في هذا النقاش لان احترام القضاء حجة تملك من الوجاهة ما يجعلها خاتمة لأي نقاش، وبالمقابل، فإن حجج الدفاع عن الحريات والغرق في تفاصيل الانتقاء المجهري للعبارات والالفاظ ومحاكمة النيات التي يستخدمها البعض تضع الجميع مباشرة أمام هاجس مصادرة الحريات بحجج انتقائية وبمستوى متدن من الجدل لا ينم عن ذكاء وتسامح. التسامح عبارة لا ترد كثيراً في الجدل الذي يشغل الكويت حالياً لان الفرقاء وأطراف الجدل لا تملك أي أرضية تؤهلها لممارسة هذا التسامح. فهي بمثل صراحتها واصرارها في التعبير عن نفسها وآرائها، انما تعبر عن فقدانها لذلك النوع من الصلات بين بعضها التي تؤهلها للتعامل مع بعضها بدوافع أكبر من الفهم الذي يجعلها قادرة على ممارسة اختلافها بقدر أقل من الاستقطاب والتحفز والاستعداد الدائم لخوض المعارك.

الحال ان الجميع يمارس التربص على أشده مما يدفعنا للتساؤل عما يجمع التيارات السياسية والفكرية في الكويت من قواسم مشتركة…؟ هل ثمة أرضية يلتقي عليها السلفيون والليبراليون في الكويت اليوم؟

أحياناً تبدو هذه المسميات في غير مواضعها، وأهمية التساؤل تبدو جلية عندما تتداعى إلينا تلك الايام العصيبة التي عاشها الكويتيون في ظل الاحتلال العراقي، فأكثر العبارات التي التصقت بنضال الكويتيين تحت الاحتلال هي عودتهم للتكاتف وصور التراحم الاجتماعي وذوبان العصبيات. تلك العبارة تقدم جواباً على ما كان عليه مجتمع الكويت قبل الاحتلال والتأكيد المستمر عليها في أدبيات فترة الاحتلال تعبير عن فرح واستبشار حقيقي بتحققه ولو بشكل قسري في ظل محنة الاحتلال، وتعبير عن رغبة قوية في بقائه واستمراره باعتباره مكسباً مجتمعياً لا يمكن التضحية به. اليوم يدرك الكثيرون أيضاً ان هذا جواب قائم حتى اللحظة. فالسؤال عما يجمع تيارات الكويت السياسية والفكرية اليوم من قواسم مشتركة، انما يحمل في طياته جرعة من أسف على مستوى عال من النضج السياسي والاجتماعي حققه الكويتيون في وقت عصيب، فهل بلغ الأمر حداً من السوء يدفع الكويتيين للغرق في خلافات تفصيلية حول أبيات من قصيدة وكلمة ربما كان بالامكان تحاشيها ولتوقظ هذه المعارك خشية حقيقية على الحريات؟

المفارقة ان مثل هذه القضايا الغارقة في التفاصيل باتت تضع الكويتين على تماس مع قضية اكبر: ثوابت الدستور الكويتي نفسه. والاقتراب من هذه الثوابت وهي حرية الرأي يجعل الخشية على الحريات هاجساً حقيقياً، واللجوء للقضاء الذي يبدو للبعض أفضل من الاعتداء الجسدي واستلال الخناجر، ما زال يخفي نزعة انتقام وميلاً للتأديب، فبين الطرح والقول وساحات القضاء، تبقى أدوات جدل عديدة متاحة طالما تعلق الامر بالرأي، لكن المؤسف هو ان اطراف الجدل لا تأخذ بعضها على محمل الجد على ما يبدو. وبدلاً من الدخول في مناظرات وحوارات تصل الى منتهاها، فان القضاء يبدو الوسيلة الأسرع للرد. هذه السرعة في الحكم على ما يكتبه الآخرون وتعدد الدعاوى والطابع التفصيلي لتهم الاساءة للدين والاباحية الرائجة تفصح بجلاء عن انتفاء الرغبة في الحوار اصلاً. ويبدو الامر غالباً كما لو ان الجميع قد حسم الامر وسلم بعدم جدوى الحوار والحجاج. ولان القضاء بات وسيلة طرف واحد أي السلفيين، فان خصومهم يبدون باصرارهم على حرية الرأي والتعبير وتعويلهم على العقل، يبدون مثل فاقدي الحيلة. فهم في موضع الدفاع دوماً عن انفسهم. فقناعاتهم وآراؤهم وايمانهم مطروحة للتشكيك على الدوام.

الجدل الذي يستحوذ على الكويت حالياً يحمل هواجس حقيقية على مسألة الحريات، لكن الهاجس يبدو أكبر بكثير من ان نعتبره هاجساً أفرزه جدل غير مكتمل ومجتزأ لا يتاح له الذهاب الى الشوط الاخير، فالحوار غير وارد والتسامح غائب، أي الادوات والوسائل والمفاهيم الاصح لادارة الجدل الفكري والثقافي والسياسي في أي مجتمع.

على هذا، يبدو الجميع أمام حالة هي أقرب للمراوحة نتيجة لغلبة دوافع التربص والتحفز على دوافع الحوار وبناء جسور فهم متبادل تعيد للمجتمع حيوية يحتاجها بشدة، والخطورة هنا درس سابق لم يستفد منه الكثيرون. فالمراوحة لن تفعل سوى ان تدفع الناس لحالة من الشلل، وبفعل هذا التحفز فإن الأمر ما لم يتم تداركه، لربما يقود الى معارك من نوع آخر تخرج من فضاء الاختلاف الوحيد، أي الصحافة، فهذه مثل المرشح الفلتر ما تزال تؤدي دورها بتحفظ ورصانة فيما المراوحة قد تدفع فاقدي خصلة الصبر والتدرج الى ما هو أخطر.

 

رابط المقال في ارشيف الحياة:

http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/1998%20to%202002/Alhayat_1999/General/404/40409.xml.html